نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / محمد منصور يكتب…وجهة نظر

محمد منصور يكتب…وجهة نظر

هناك مدينة ما في عالم آخر اسمها “فوق”، كانت مخصصة للأغنياء والقادرين، وأولئك الذين يتمتعون بالرفاهية الكاملة. وكانت “فوق” فوق هضبة عالية جداً.. بحيث يستطيع العالم كله مشاهدتها من أي مكان على كوكب الأرض، بينما بقية مدن العالم تتشابه مع بعضها البعض، وتقع في مستوى أدنى من مدينة “فوق”، ويطلق على ذلك المستوى الأدنى اسم “تحت”.

يقيم في مدن وقرى المستوى “تحت” أناس فقراء مهمشون، عمال ومزارعون لايملكون قوت يومهم، يحصلون على حاجياتهم الأساسية من طعام وشراب مقابل خدمات وعمل يقدمونه لسكان “فوق”. وكأن القانون يفرض شرطا ينص على أن من يسكن مدينة “فوق”، لابد أن يكون شخصا ذكيا متفوقا، وأن يثبت ذلك، بما يتضمن المشاركة في الماراثون السنوي للآدميين، ومسابقة ضخمة أخرى يتعين على المشارك فيها إثبات استحقاقه فرصة المشاركة، لا يهم كيف؛ ففي كل عام كان يفوز أشخاص متملقون، يجيدون الانحياز لسكان مدينة “فوق”، وشغلهم الشاغل – طوال العام – هو التعرف على سكان “فوق” المشهورين، والتقرب إليهم بتقديم هدايا لكسب رضائهم.

هكذا استمر الحال لمئات السنين، والأجيال تتوالى على نفس المنوال. فالكل يولد بالفطرة على التسليم بالفوارق بين الناس، انطلاقا من اعتقاد بأن هناك الذين يعيشون “فوق”، وهنا من يعيش “تحت”. كل الشوارع فيها علامات وإشارات، تؤكد الفرق الواضح بين نوعي الشخصيتين هنا وهناك، تحذر من أن القانون سيفتك بمن يتجرأ على تجاوزه، أو حتى يفكر في ذلك، بدلا من الالتزام بتقديم فروض الولاء والطاعة.

ورغم فرض هذا النمط الحياتي غير المنطقي، إلا أن أحدا لا يعترض، فالحياة تستمر على نحو عادي نسبيا، والكل “مبسوط” فوق وتحت.. ففي “تحت” الكل يحلم بفوز يمكنه من أن يطلع “فوق”. وفي “فوق” الكل متحمس طول السنة للمحاولات المبهرة من سكان “تحت” للفوز.

تواصلت الحياة على هذا النحو، حتى اكتشف”الإنسان” أنه لا يوجد فرق حقيقي بين أهل “تحت” وأهل “فوق”، أو في”طبيعة” الإنسان على جانبي التقسيم المفروض. فكتب التاريخ كلها تتكلم عن الفوارق التي يحدثها من يتولون السلطة والحكم، ويكون بيدهم الأمر في تشريع القانون. لكن ليس هناك فارق منطقي، يجعل أولئك اللذين يعيشون”تحت”، اقل من أهل”فوق”، فالاثنان بشر بنفس الشكل والأبعاد والخصائص “من بره ومن جوه”. ويولدون بنفس الطريقة على نفس الكوكب، يتنفسون من الهواء نفسه، ويأكلون ويشربون ويتكاثرون تماما بنفس الطريقة.

عندئذ، بدأ “الإنسان” يقول للناس أنه ليس هناك فرق بين “تحت” و”فوق”. وأنه يتعين أن يعيش الناس جميعا مع بعضهم البعض على نفس المستوى. لكن الناس رفضوا الاستماع لما يقول. وكان هناك من حذره من أنه يخاطر بتعريض نفسه للسجن أو القتل. وتخوف غيرهم من مجرد تبادل الكلام معه، وقال له آخرون “بدلا من التنظير علينا، لماذا لا تفكر فيما يساعدك على الصعود إلى”فوق”؟

ومن ثم أصاب “الإنسان” يأس من كلام الناس، فقررأنه يستطيع الانتقال إلى”فوق” بدون مسابقة، وصعد إلى تل مرتفع، استعدادا لبناء بيت فوقه، حتى يستطيع أن يرد على سؤالهم بشأن الفرق، بإجابة بسيطة مضمونها أنه “مفيش فرق”، أنا مثلكم يا أهل “تحت” كما كنت من قبل، والفرق الوحيد هو أنى صعدت إلى”فوق”. فمن حقنا جميعا أن نكون فوق”.

ظل “الإنسان” يبنى على مرأى ومسمع من الجميع، وبعد أن سمع سكان “فوق” بما يفعله ذلك “الإنسان”، قرروا متابعة مايفعل دون التدخل لوقفه. فاستمر في زيادة ارتفاع البناء طول العام، حتى أصبح في مستوى “فوق”، وأعلن “الإنسان” أنه لن ينزل إلى “تحت”مرة أخرى، وأن من يرغب في الانضمام إليه “فوق”، يستطيع اللحاق به هناك، فالمكان كبير ويتسع للجميع. أما من يريد البقاء”تحت”،فليكن ذلك اختياره.

وعندما حل يوم المسابقة، وقف “الإنسان” عند منزله “فوق”، وصرخ في الناس يقول “يا أهل تحت.. مكانكم فوق. يا أهل تحت.. مكانكم فوق.. يا أهل تحت.. مكانكم فوووووووووق”.لكن أحدا من سكان “تحت” لم يصغ لما يدعو “الإنسان” إليه، وفضلوا جميعهم التسابق للحاق بمن وصل الساحة قبلهم، ليتفرجوا على المسابقة.

وفجأة، وبعد تجمع الكل في الساحة، قرر سكان “فوق” أنهم “لايريدون أن يقدم أحد هدايا من ابتكاره هذا العام، وأن الفائز في “مسابقة العام”، هو الذي يستطيع إجبار”الإنسان” الذي قرر يكون “فوق مثلنا بدون مواقفتنا”، على العودة إلى “تحت”.

ما أن أكمل أهل “فوق” مطلبهم، حتى تسابق كل أفراد قطيع “تحت” – في هرج ومرج – لصعود التل الذي يقع فوقه منزل “الإنسان”، وتدافعوا وكل منهم يريد الوصول إليه قبل غيره.

وقف “الإنسان” فرحا  مهللا، ورفع يديه مشجعا أهل “تحت” على الصعود، وهو في سعادة غامرة، لكنه فوجيء بأنهم – فور وصولهم إليه – أمسكوه ونزلوا به إلى “تحت”، وجروه سحلا إلى الساحة، وصراخه يتعالى في ذهول مما يجري له، حتى ألقوا به تحت أقدام أهل “فوق” في الساحة، منتظرين قرارهم.

حاول “الإنسان”الهرب والخروج من وسطهم، لكن أهل “تحت” التفوا حوله، و كلما حاول الوقوف على قدميه، استمروا يضربونه ويدفعونه إلى الأرض، فطفق يصرخ فيهم قائلا “هذه الدرجة من الكراهية لي، كان يجب أن تكون موجهة لأهل”فوق”، لأنهم استعبدوكم كل هذه السنين، وحرموكم من حقكم في الصعود إلى “فوق”، لأن الله خلق الجميع سواسية”. لكن أحدا لم يصغ لكلمة مما قاله “الإنسان”، فقد كان كل أهل “تحت” يهللون فرحا بانتصارهم، وتنفيذهم أوامر أهل”فوق”.

وسط هذا التهليل، أصدر أهل “فوق” أوامرهم بذبح “الإنسان”أمام الجميع، فاندفع جميع أهل “تحت” نحوه، مشهرين سكاكينهم واسلحتهم، فطعنوه في كل جزء من جسده، حتى فارق الحياة غارقاً في دمائه، على مرأى من الجميع.

علت صيحات أهل “تحت”، والتفوا حول جثة “الإنسان” يرقصون، والطبول تدق والكل سعيد، حتى تعب الجميع بعد أن أفرغوا كل طاقتهم، وذهب من ذهب وتبقى من تبقى.

فرغت الساحة من الجميع، وجفت دماء “الإنسان”، وعادت الحياة لما كانت عليه.. البعض يعمل من أجل “فوق”، والبعض يبتكر من أجل “فوق”، والآخرون يمكثون مكانهم يشاهدون فقط، ويتأملون صامتين. حتى جاء وقت سطر فيه التاريخ أنه “كان هناك “متمرد” قرر الإخلال بقوانين الطبيعة، وخرج عن العرف والشرع السائد في العالم، فكانت النتيجة أن ثار الجميع ضده، وقتلوه ذبحا في الساحة العامة، قبل أن تصل إليه يد السلطة والقانون. سيبقى عالمنا في أمان، في حماية شعبه قبل أن يكون بيد قانونه، ولذلك سيبقى كل من “فوق” فوق.. وكل من “تحت” تحت”.

شاهد أيضاً

مصطفى الفقي

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

نبيل عبدالفتاح

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة