نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

نبيل عبدالفتاح
نبيل عبدالفتاح

إنّ نظراتٍ – ولو عابرة – على عيّنات ما يجري على الحياة الرقمية، وما يتم التداول عبرها، تشير إلى سيطرة الأكاذيب، والأخبار المغلوطة، والتعليقات السطحية، وتحول الجماهير الرقمية الغفيرة.. إلى خبراء في السياسة، والأديان والمذاهب، والفنون، والثقافة، والفلسفة، والسوسيولوجيا، والهوية… إلخ!

كل ذلك يتم في سياقات قصيرة بسرعة فائقة، والسمة الرئيسية لغالب المنشورات والتغريدات.. هي السطحية والتفاهة، ومرجع ذلك حالة الانكشاف الكوني لما يجري داخل هذه الجماهير الرقمية والفعلية الغفيرة.. من تراجع مستويات التعليم والتكوين والخبرات – لا سيما في عالمنا العربي – وسطوة ثقافة الكذب والمراوغة والازدواجية.. في التكوين الفردي، التي تشكلت في مواجهة السلطات السياسية، والدينية، والمذهبية، والقبائلية، والعشائرية.

تبدو ثقافة الكذب.. تراكمات تاريخية في مناورات الشخص العربي، وتمددت إلى علاقاته الشخصية.. داخل الأسرة، وجماعة الرفاق، والزمالة، والجيرة… إلخ! من هنا شكلت إحدى آليات التفاعل الاجتماعي؛ هروباً من الإفصاح عن الرأي، والموقف؛ إما تجاه أزمة، أو لتفادي الإقرار بالخطأ. بات الكذب آلية للهروب من الحقيقة النسبية، ومواجهة الذات بأخطائها في العمل والصداقة والزواج والأسرة والسياسة.

من هنا لعبت ثقافة الكذب دورها في المراوغة مع ذوي السلطة والنفوذ. تساندت ثقافة الكذب مع ثقافة النفاق.. في عديد المجالات، لتحقيق بعض المصالح، أو الهروب من بعض المواقف الحرجة… إلخ.

لا شك أن ذلك يعود إلى اختلال في نظام التنشئة الاجتماعية، وخاصة في المجتمعات الزراعية، التي لا تزال فيها القيم الاجتماعية الريفية الموروثة.. هي المسيطرة على توجهات الأشخاص في العلاقة مع السلطات – أياً كانت – سعياً وراء الاستمرارية في الحياة، والحصول على المصالح الشخصية.

القيم الريفية هيمنت على فضاءات وثقافة المدن، وباتت هي المحلقة على حياتها.. مع الانتقال من الأرياف إلى المدن المُريَّفة.

لا شك أن تدهور أنظمة القيم الاجتماعية في عالمنا العربي، وترييفها.. يعود إلى تدهور مستويات أنظمة التعليم والإعلام والثقافة.. خلال أكثر من خمسين عاماً خلت، ولا تزال تتدهور؛ خاصة مع تراجع مستوى المدرسين في التعليم العام، وأيضاً تردي مستويات التعليم الجامعي.

لا شك أن ذلك يعود أيضاً.. إلى تراجع مستويات الجماعات العلمية في الجامعات العربية، وهو ما بات يمثل أحد الانتقادات.. التي يوجهها بعض الأساتذة القدامى البارزين للتعليم الجامعي، وتخصصاته في جميع المجالات؛ لا سيما العلوم الاجتماعية، وانفصال بعضها عن التطور في النظريات والمعارف.. النظيرة لها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كنتاج لقلة البعثات العلمية إلى هذه الجامعات، مقارنة بسنوات الاستعمار، وبعد الاستقلال الوطني في هذه البلدان، باستثناء بعض الدول النفطية في العقود الأخيرة.. بعد ثورة عوائد النفط في أعقاب حرب أكتوبر 1973، ومع ذلك أدت أيضاً القيود على حريات البحث والرأي والتعبير والحريات الأكاديمية.. إلى جمود الفكر داخل الجامعات العربية، ومن ثم تراجع مستويات الأطروحات العلمية ما بعد الجامعية، وتحولها إلى مظهر للوجاهة الاجتماعية. ناهيك عن أن بعض الفساد، بات جزءاً من الحياة الأكاديمية العربية في منح الدرجات العلمية – الماجستير والدكتوراه – والترقي من درجة علمية لأخرى، على نحو ما يشير إليه بعض الأساتذة في هذه الجامعات!

يشكل رهاب الثقافة والمثقفين، أحد أمراض بعض السلطات السياسية العربية.. نظراً للخوف من أدوار المثقفين، والنظر إلى مواقفهم النقدية.. بوصفها مثيرة للقلق، وتبث الانتقادات في الحياة العامة، وتحرض على عدم الاستقرار. هذا الإدراك، أدى إلى سوء فهم وسوء إدراك لدور المثقف النقدي.. في تحليل الاختلالات في النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية والدينية السائدة، وأن دوره النقدي يرمي إلى تصحيح وإصلاح هذه الاختلالات البنائية.. من أجل تطور الدولة والمجتمع معاً.

لا شك أن رهاب المثقفين لدى السلطات السياسية، أدى إلى تراجع أدوارهم لغياب الطلب السياسي، ثم الطلب الاجتماعي.. على المثقف ودوره النقدي، وهو ما امتد إلى الثقافة عموماً، التي تحولت إلى ثقافة الترفيه والاستعراض والسطحية؛ خاصة أن ثقافة السطحية والتفاهة، باتت الأكثر تعبيراً عن غياب المثقف النقدي، والإبداعات الثقافية الجادة، وخاصة مع شيوع كتابة الروايات.. كأداة للذيوع، ومعها ورش كتابة الروايات والقصص بأجر.. في عديد البلدان العربية، واحتلت الرواية أبرز علامات الثقافات العربية، على الرغم من أن فيضان الكتابة الروائية، لا يعدو أن يكون تعبيراً عن أزمة هذه الثقافات، وليس دلالة على هويتها وازدهارها ومجدها، لأنها محض كتابات روائية.. بعضها سطحي ويفتقر إلى الموهبة والخبرة الأسلوبية والأساليب المبتكرة، والبنى الروائية المحكمة، وخاصة في ظل بروز وتمدد عصب الشلل الأدبية والنقدية.

لا شك أن هذا الفيضان من السطحية والتفاهة.. في الحياة الرقمية، يرجع أيضاً إلى تدهور النقد المتخصص.. الذي يتابع الحياة الثقافية من منظورات نقدية متخصصة، على نحو ما كان يتم قبل الثورة الرقمية. كل هذه الأسباب، أثرت سلباً على تكوين ومعرفة ووعي غالب الجماهير الرقمية الغفيرة. وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي، لتكشف عن تدني مستويات الوعي والمعرفة لدى هذه الجماهير الرقمية والفعلية.. في خطابات المنشورات والتغريدات والفيديوهات الطلقة، والصور والنظرات الومضة والتعليقات السريعة.

من هنا كانت الثورة الرقمية كاشفة عن نزعة الاستعراض، ومحاولة إثبات حضور الذات الرقمية.. في ظل عدم قدرتها على هذا الحضور في الحياة الفعلية. تحول كل ما هو حقيقي.. إلى تمثيل وفق «جي ديبور» في «مجتمع الاستعراض».

ذهب «ديبور» إلى أننا نعيش «المديوكراتية»، بينما الثورة الرقمية أدت إلى عصر «المنيوقراطية»، أي ما دون الحد الأدنى من المعرفة والوعي والتعليم، على نحو ما تشير إليه الحياة الرقمية السائلة والمضطربة، والكاشفة عن اختلال حياة الإنسان والمجتمعات العربية وتعليمها وثقافاتها، وهو ما يحتاج إلى مراجعات كبرى في السياسات التعليمية والثقافية، وفي أنظمة التنشئة الاجتماعية، ولمواجهة صدمات المستقبل والذكاء الاصطناعي، لأننا في حالة غيبوبة عن زمن العالم.

نقلاً عن «الأهرام»

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج

مَن يحكم العالم؟

مَن يحكم العالم؟