نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / الـ«مُهندَس غاندي»

الـ«مُهندَس غاندي»

مصطفى حجازي
مصطفى حجازي

«مهندَس كارامشاند غاندي».. هو الاسم الحقيقي لـ«المهاتما» غاندي؛ ذلك الرجل الأيقونة.. أيقونة السلام والإنسانية والوطنية الرشيدة.

«لست أقدِّم تعاليم جديدة للبشرية، فالحقيقة واللاعنف قديمان قدم التاريخ».. تلك هي كلمات غاندي المنقوشة على أحد جدران مؤسسة «الساتياجراها» في أحمد آباد. وهي كلمات تفيض بالدقة والتواضع في آن.

استطاع غاندي – بمنهج حياة عاشها لا تبغي غير الحقيقة – ليس فقط أن يحرر بلاده من استعمار.. كان مآله إلى زوال، مهما طال كشأن كل استعمار، ولكن أن يخلق وجداناً جديداً للأمة الهندية.. ضمِنَ لها نضجاً مستحقاً. أو بتعبير ربيبه وسبطه السياسي «جواهر لال نهرو»، أن يُدخل روحاً جديدة.. لم تغير حياة كل من كانوا حوله فقط، بل غيرت حياة الهند كلها.

ظل «غاندي» – الذي يمر على وفاته أكثر من خمسة وسبعين عاماً – وكتاباته عن السلمية في ممارسة حق المواطنة ضد المحتل، وأفكاره عن قيمة «حقيقة قوة» الأمة في مقابل حفنة من المرتزقة ناهبي ثرواتها – بمنزلة درس للعالم أجمع، حتى بعد موته عام 1948م.

«الساتياجراها»، وترجمتها من اللغة السنسكريتية هي «قوة الحقيقة» – أو بالأحرى «الإصرار على الحقيقة» – كما يؤرَّخ لها، بأنها أول حركة عصيان مدني «قومية».. أي بطول وطن وعرضه. جاء وصفها على لسان «المهاتما».. حين تم التحقيق معه من قبَل سلطات الاحتلال البريطاني في عام 1920. وعن كنهها، كانت إجابته.. أنها حركة مجافية لأساليب العنف، والأهم أنها «حركة تعتمد كلياً على الحقيقة».

لقد فطن غاندي – وأثبت بدليل عملي قاطع – أن «قوة الحقيقة» تربو وتعلو على كل قوة مادية، وكل مكر يحدوها.

فقد بدا أثر مبدأ «الساتياجراها» على حركة الحقوق المدنية الأمريكية، التي استعادت حقوق بشر أريد لهم أن يحيوا منتقصي الآدمية بشبه حقوق.. في وطن يطالبهم بكل الواجبات. وطن يطالبهم بضريبة الدم في الدفاع عنه، وبالعرق في إنمائه، وهو يضن عليهم بالعدل، وتكافؤ فرص الإتاحة، وعائد ثروات البلاد.

ومن أيرلندا في قديم، إلى بولندا والفلبين في حديث، كان لأفكاره ذات الأثر في قدرة الشعوب على كسر أغلالها.

استطاع «غاندي» – وهو المحامي بالتعلم والمهنة – أن يكسب قضية بلاده في الاستقلال عن غاصب متمكن.. بألا ينجرف إلى أرضية الصراع، وأدوات الصراع.. التي يريدها الغاصب ويتقنها.

فقد فهم «مهندَس غاندي» – والأهم فهم أصحاب القضية حوله – أن الأصل في الصراع مع المحتل.. هو حقيقة كونه غاصباً بلا شرعية، وأن في ذلك مقتله، ومكمن ضعفه، ومناط زواله. وفي ذلك ذاته، كل قوة للأمة.

وضع «المهاتما» ذلك موضع التنفيذ والاختبار والتجربة، فكانت مسيرة الملح الكبرى عام 1930، وهي المسيرة السلمية التي دعا إليها.. للاعتراض على ضريبة الملح ونقضها، وهي تلك المسيرة التي كانت مثارَ سخرية بعض أبناء وطنه.. قبل سخرية أعدائه، حتى إنه مما يؤثر عن «ونستون تشيرشل».. أنه هزأ مازحاً من غاندي ومسيرته قائلًا «إن هناك من يتوهم أنه يستطيع أن يهدم إمبراطورية عظمى بحفنة ملح»!

وبالفعل.. أسقط يقينُ أمة – في ملكيتها حفنة من ملح الوطن – إمبراطورية عاتية ماكرة، ولغت في ثروات الأمة ونزحتها نزحاً!

إنها «قوة الحقيقة».. بأن الأمة هي صاحبة الولاية على مقدَّراتها، وأن من يحكمها.. يحكم نزولاً على قبولها، وامتثالاً لشرعية سلطة تمنحه إياها.

عندما شرع «غاندي» يكتب مذكراته – التي سماها «قصة تجاربي مع الحقيقة» – في العام 1925.. وكان قد بلغ السادسة والخمسين من عمره. كما كان قد بلغ القنوط واليأس منه مبلغه في شأن تحرر بلاده. وتملكته الكآبة وعدم الثقة في إمكانية استقلال الهند. لم يكن يعرف أن ما هو بصدد تأصيله كتابةً – وأراد به إعادة النظر في حياته واتجاهاته المستقبلية – سيكون له ذاك الأثر.. ليس فقط على الهند ومستقبلها، بل على بلدان أخرى.

في علامات التاريخ الإنساني، والنضال من أجل الأوطان.. ما يبدو وكأنه من أمارات النقص، كالشعور باليأس أو الوهن أو الكلل تحت أحمال القضايا الكبرى.. كان هو في ذاته جوهر صدق الكمال الإنساني! فالكمال الإنساني حقيقة تمامه تكمن في الإقرار بنقصه، مع التسامي على صغائر النفس والعمل للترقي بها إلى مراقي القضايا الكبرى.

فمثل ما طال غاندي من قنوط.. كان قد طال سعد زغلول وأقطاب الحركة الوطنية المصرية قبل ذلك بسنين.

فبهزيمة العرابيين – كما قلنا في ذات الموضع في مقالات سابقة – انتكست الحركة الوطنية المصرية إثر لطمة الاحتلال الصُراح، وهيمن شعور بالمرارة يُفضي إلى حال من اليأس العدمي.. من أي أمل في مخرج منظور. وساد شعور بالتقزم حيال عنفوان «المحتل» الغاصب.. بكل تفوقه التقني والإداري والعسكري والاقتصادي. بل وانكسر البعض بشرياً.. تحت وطأة الشعور بالعجز ومرارته، كـ«سعد زغلول» ذاته.. حين أدمن القمار بغية التخفف من شعور التيه؛ فكأنه هرب من التيه بالتيه. وانتهى به إلى حال من التفسخ النفسي، والضياع المادي الذي جعله – وبما كتبه هو في مذكراته – يُقبل على الانتحار، ويمني نفسه به.. إن لم ينصلح حال نفسه!

ولم يكن صلاح النفس عند هؤلاء الكبار، إلا صدق التماهي في صلاح الوطن.

ومن المأثور تاريخياً، أن الصلف الشديد للإمبراطورية البريطانية في أوائل القرن العشرين، وشعورها الهائل بأن الدنيا قد دانت لها. وأطراف مستعمراتها شرقاً وغرباً.. جعلت منها الإمبراطورية التي لا تغرب عن أراضيها الشمس.. فعلاً لا مجازاً، قد أعمى تلك الماكينة العسكرية الهائلة.. ذات الدهاء السياسي، والسبق الصناعي.. عن تزامن صحوة الوطنية والوعي فى ثلاث من مستعمراتها الأساسية.. في الهند ومصر وأيرلندا. وهو تزامن الصحوة – الذي لم تكن لتخاصمه حكمة التاريخ، أو يجافيه عدل السماء – فكانت بداية نهاية تجبُّر الإمبراطورية وعنوان تآكلها.

أخيراً.. إن ما وعاه واعتقده «مهندَس غاندي» – ومازال بنا يغير التاريخ – هو أن «قوة الحقيقة» لدى الأمة، أمضى وأعتى من شذرات «حقيقة القوة» تحت إمرة كل تاج.. بعدته وعتاده.

إن «قوة الحقيقة» فوق «حقيقة القوة»!

فَكِّرُوا تَصحُّوا..

 

نقلاً عن «المصري اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج