نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / الشروط السياسية للإصلاح الاقتصادي

الشروط السياسية للإصلاح الاقتصادي

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

أصارح القراء – بداية – أن قاموس اللغة المتداول إعلامياً.. يحتاج إلى إعادة النظر، فليس هناك تعريف مستقر لمفهوم الإصلاح الاقتصادي، الذي لا بد أن يتفاوت مضمونه من دولة لأخرى، ومن مرحلة تاريخية معينة في تلك الدولة إلى مرحلة أخرى، فلا شك أنه كانت هناك حاجة للإصلاح في مصر في 1964، وتولى السيد الراحل زكريا محيي الدين رئاسة مجلس الوزراء، واعتزم إدخال إصلاح اقتصادي، وكان المقصود به.. توفير مزيد من المرونة فى إدارة القطاع العام، وسُمي اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولى فى سنة 1991.. برنامج التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي. وقد تضمّن بين بنوده العديدة قيام الحكومة المصرية ببيع عدد من شركات القطاع العام، بمعدل شركة كل أسبوع أو قرابة اثنتين وخمسين شركة سنوياً.

ومع أن المقصود في الحالتين.. يحمل تعبير الإصلاح، إلا أن مفهوم الإصلاح لم يكن واحداً.

ومع ذلك.. وفي ظل هيمنة النظام الرأسمالي عالمياً في الوقت الحاضر، فالمفهوم الجاري للإصلاح الاقتصادي، هو ذلك الإصلاح الذي يُفضي إلى تقليل تدخل الدولة في الاقتصاد، وترك مساره لتحدده أوضاع السوق، والسعي لجعل المشروع الخاص.. هو القاعدة الأساسية للاقتصاد، وفتح السوق الوطني أمام حرية التجارة، سواء في السلع والخدمات أو في حركة رءوس الأموال.

لن ندخل في النقاش الفلسفي.. حول ما إذا كان ذلك سوف يؤدي إلى إصلاح اقتصادي، بمعنى رفع إنتاجية عوامل الإنتاج من عمل ورأس مال، والتغير البنيوي.. ابتعاداً عن قطاع الإنتاج الأوّلي من زراعة ومعادن وطاقة، وزيادة نصيب قطاعات الصناعات التحويلية والخدمات الإنتاجية، وما ينبغي أن ينتج عن ذلك من تخفيف أو القضاء على الفقر، وتوفير ظروف حياة كريمة لكل المواطنات والمواطنين. ولكن فلنقتصر في هذا المقال على الإصلاح الاقتصادي.. بمفهومه النيوليبرالي، الذي يأخذ به صندوق النقد الدولي، ليس حباً في ذلك المفهوم، ولكن لأنه المفهوم الذي التزمت به الحكومة المصرية وفق الاتفاق الذي وقعته مع الصندوق في ديسمبر الماضي، والذي على الحكومة تطبيقه حتى تحصل على قيمة القرض.. الذي أقره مجلس إدارة الصندوق، وربما كذلك المعونة التي وعدت بها مجموعة من الحكومات يقال إنها صديقة لمصر.

مثل هذا الإصلاح، يدرك خبراء الصندوق أن نجاحه لا يتوقف فقط على اعتبارات اقتصادية، ولكنه يتوقف أيضاً على جملة من الاعتبارات السياسية، بل والثقافية والاجتماعية، اجتهد خبراء الصندوق – ومعهم خبراء البنك الدولي – في البحث عنها، واعتبروا أن الوفاء بهذه الاعتبارات.. هو الذي يكفل نجاح ما سموه توافق ما بعد واشنطن؛ أي توافق المؤسستين على جملة من السياسات.. تبتعد عن السياسات التي لا تأخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، والتي تركز فقط على التوازن النقدي والمالي، التي شكلت ما سُمي قبل ذلك بتوافق واشنطن، وكانت مذكرة الصندوق للحكومة المصرية في يناير 1977.. صيغة مبكرة لها، وأدت محاولة الحكومة المصرية لتطبيقها، إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية في 17 و18 يناير من نفس العام، التي أجبرت الحكومة على التراجع عنها.

لم تكن تلك تجربة مصر وحدها مع الصندوق – وخطته للإصلاح الاقتصادي – ولكنها كانت قصة دول أخرى أبرمت مثل هذه الاتفاقات مع الصندوق، واضطرت للتراجع عنها تحت ضغط الانتفاضات الشعبية. ولذلك، وهذا هو موضوع هذا المقال، بدأ خبراء الصندوق والبنك في البحث عن الشروط السياسية، التي تكفل نجاح ما يعتبرونه إصلاحاً اقتصادياً، ولذلك من المهم معرفة هذه الشروط.. لنعرف ما إذا كانت تتوافر في حالة مصر، وحكومتها تسعى جاهدة لتطبيق وصفة أخرى للإصلاح الاقتصادي في اتفاقها الأخير مع الصندوق.

أسباب فشل تطبيق وصفة الصندوق على عهد توافق واشنطن

أسباب فشل وصفة الصندوق في صيغتها الأولى.. واضحة ومعروفة. أعباء الوصفة واضحة. تقليل عجز الموازنة عن طريق خفض النفقات، يأتي غالباً على حساب الخدمات الاجتماعية – من تعليم وصحة ودعم الغذاء للفقراء – لأن الحكومات تتردد في خفض الإنفاق على المؤسسات الأمنية، كما تتردد في رفع الضرائب على الأغنياء من أنصارها، بدعوى أنهم يخصصون أرباحهم للاستثمار، رغم أنهم بعضهم إما لا يدفعون الكثير من الضرائب، أو يهرّبون ثرواتهم إلى خارج البلاد. وهذه قصة معروفة، خصوصاً في دول أمريكا اللاتينية.

ولذلك يجد محدودو الدخل، أن عليهم أن يدفعوا مبالغ أكبر للحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية، وكذلك لتأمين غذائهم. كما أن النصيحة الأخرى للصندوق.. بخفض سعر العملة المحلية في مواجهة العملات الدولية، تؤدي إلى ارتفاع أسعار الواردات، بما فيها واردات الغذاء ومستلزمات الإنتاج، ويترتب على ذلك قفزات في أسعار الغذاء، وانخفاض مستويات الإنتاج.. التي تعتمد على قدر كبير من مستلزماته المستوردة، ما لم تجد الحكومة طريقة لتوفير التمويل الأجنبي للمنتجين المحليين الذين يعتمدون عليها.

ومع ضغط الإنفاق العام ورفع أسعار الفائدة بدعوى تشجيع الادخار وحماية العملة المحلية، يدب الكساد وترتفع مستويات البطالة.

هذه النتائج لبرامج الإصلاح، التي يدعو لها الصندوق.. هي محل قبول من جميع خبراء الاقتصاد، ولكن أنصار مثل هذه الأفكار.. يدّعون أن الأثر الانكماشي لبرامج الصندوق، هو تضحية ضرورية في الأجل القصير. ولكنهم يتوقعون أن النتائج الإيجابية لهذه البرامج.. لا تلبث أن تظهر في الأجلين المتوسط والطويل. ولذلك احتاج الصندوق علماء السياسة.. ليجدوا طريقاً لضمان استمرار الحكومات القائمة بمثل هذا الإصلاح في الأجل القصير، حتى تشهد النتائج الإيجابية فيما بعد.

وجد هؤلاء العلماء أن توفير الظروف السياسية لبقاء مثل هذه الحكومات «الشجاعة» – من وجهة نظرهم – تكتنفه صعوبات؛ أولها أنه ليس معروفاً على وجه التحديد.. من المستفيدين من هذه البرامج حتى يمكنهم الدفاع عنها؟ ربما يستفيد منها المصدّرون الذين يحبذون انخفاض سعر العملة المحلية، الذي يجعل صادراتهم أرخص في الأسواق الأجنبية. ويستفيد منها كذلك حائزو العملات الأجنبية، التي يرتفع سعر تبادلها في السوق المحلي.. مع انخفاض سعر العملة المحلية، وربما يستفيد منها كذلك المزارعون.. إذا ما أدى انسحاب الحكومة من تسعير السلع، إلى ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية.

كما أن هذه السياسات، تجد تأييداً من جانب الخبراء من أنصار الاقتصاد الحر، ولكن كل هؤلاء هم قلة.. أمام جمهور واسع من المواطنات والمواطنين، تضيرهم السياسات التقشفية؛ بما تؤدي إليه من تضخم ركودي ومن بطالة. ويضيف علماء السياسة – الذين يستعين بهم الصندوق والبنك – أنه إذا كانت أعباء هذه السياسات واضحة في الأجل القصير، فإن فوائدها لا تظهر إلا في الأمد البعيد. ولما كان الذي يهم المواطنين والمواطنات.. هو ما يجري لجيوبهم اليوم، فهم لا يبالون بالمنافع التي ستتحقق في الغد، وخصوصاً أنها غير مؤكدة. وفضلاً على ذلك، فأغلبية الشعب المصري لا تعرف كثيراً عن فحوى هذه البرامج – على المديين القصير أو الطويل – هو يشعر فقط بأثره عليه.

ما العمل؟

اجتهد علماء السياسة في شرح الاستراتيجيات.. التي يمكن أن تتبناها الحكومات الساعية للإصلاح الاقتصادي، حتى تكتسب تأييداً واسعاً لهذه السياسات، ولا يتوقف ذلك على توضيح تفاصيلها، ولكن يمتد إلى تصميم هذه البرامج، والتوزيع العادل للأعباء والمنافع الناتجة عنها، والأخذ بإجراءات تعويضية – اقتصادية وغير اقتصادية – توسع نطاق أنصار هذه السياسات.

أول عناصر هذه الاستراتيجية، هي الشفافية في طرح مضمون هذه السياسات؛ فيجب أن يعرف المواطنات والمواطنون طبيعة الإجراءات.. التي تتخذها الحكومة تطبيقاً للإصلاح. ولا يجب أن تتركهم الحكومة نهباً للإشاعات أو أنصاف الحقائق عن هذه البرامج، ما الذي سيحدث للعملة المحلية؟ وما الذي سيحدث لأسعار الفائدة، وما أثر ذلك على مدخراتهم؟ وما هي حدود رفع الدعم عن المنتجات الغذائية وأسعار الوقود؟ ومتى تتوفر العملات الأجنبية للمنتجين الذين يعتمدون على استيراد مستلزمات الإنتاج؟

قد تكون هذه الصراحة مؤلمة، لأنه من المؤكد أن هذه البرامج تتطلب تضحيات، ولذلك فالذي يشجع المواطنين والمواطنات.. على تحمل هذه التضحيات، أن يدركوا أنها ستعود عليهم وعلى الأجيال القادمة وعلى بلادهم بالنفع.. في الأجلين المتوسط والطويل.

ويمتد ذلك إلى تصميم برامج الإصلاح ذاتها، ففي مثل هذا التصميم يكون واضحاً أن خفض عجز الموازنة وتخفيض سعر العملة المحلية – أي أن الإصلاحين المالي والنقدي – سيعقبهما إصلاح الاقتصاد الحقيقي؛ أي التوسع في الإنتاج الزراعي، ونقلة كبيرة في الإنتاج الصناعي، ونهضة في الخدمات الإنتاجية، مثل خدمات الاتصالات والبحث العلمي، وارتفاع في مستوى الإنتاجية، وتحسن في مستويات المعيشة. أما عندما لا يرى المواطنون والمواطنات أفقاً واضحاً ومقبولاً.. لما تدّعي الحكومة أنه إصلاح، فسوف يضيقون به، ويميلون إلى عدم المبالاة به، بل ومقاومته أو التهرب منه.

ومما يشجع أيضاً على قبول هذه البرامج.. عنصر آخر في تصميمها، وهو أن يكون هناك توزيع عادل للأعباء والمنافع، يجب أن تصطحب الحوافز المقدمة لرجال الأعمال – مثل تسهيلات استخراج التصاريح أو إعانات للتصدير – جهود جادة وملموسة لتحسين مستوى التعليم أو الرعاية الصحية، واستمرار دعم المنتجات الغذائية الضرورية للفقراء. فإذا كان المطلوب من الفقراء تحمل بعض التضحيات الناتجة – مثلاً – عن ارتفاع أسعار المواصلات، يجب أن يقابل ذلك تضحيات من جانب رجال الأعمال، مثل الأخذ بمبدأ الضرائب التصاعدية، أو ضرائب على الكسب في سوق رأس المال.

ويمكن أن يقترن ذلك أيضاً بما يسمى بإجراءات تعويضية؛ بعضها اقتصادي وبعضها سياسي. أحد هذه الإجراءات التعويضية.. يمكن أن يكون إقرار حد أدنى حقيقي للدخل.. لكاسبي الأجور، وخصوصاً بالطبع لأقلهم أجراً، أو الحفاظ على دعم بعض المنتجات الغذائية، أو حتى تخفيض أسعارها، أو خفض أسعار المواصلات أو رسوم استخدام الكهرباء لأقل الشرائح استهلاكًا. فمن شأن مثل هذه الإجراءات ليس بالضرورة كسب تأييد هؤلاء المواطنين والمواطنات لبرنامج الإصلاح ككل، ولكن تقليل احتمالات مقاومتهم له.

وقد ساعد على قبول برامج الإصلاح الاقتصادي.. في بعض دول شرق أوروبا، اقتران الإصلاح الاقتصادي بإصلاح سياسي؛ فتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد، اقترن في نفس الوقت بالانتقال إلى نظم سياسية.. تقوم على إطلاق الحريات المدنية والسياسية – بما في ذلك حريات التعبير والتنظيم – وإنهاء سيطرة الحزب الواحد على الحياة السياسية، وإجراء انتخابات حرة.. مفتوحة لكل القوى السياسية، ترتب عليها تداول متكرر للسلطة. ويمكن أن يقترن الأخذ بهذه السياسات الاقتصادية بانتصار عسكري، أو مكاسب كبيرة في مجال السياسة الخارجية، كحسم بعض أزماتها.. على نحو يحقق المصلحة الوطنية.

ولعل أهم شرط يضمن النجاح لمثل هذه البرامج، أن تكون لها قاعدة اجتماعية واسعة.. تشمل – إلى جانب رجال الدولة المؤمنين بالإصلاح، الخبراء الاقتصاديين من مدارس متنوعة، وقسماً مهماً من رجال الصناعة في القطاع الخاص ومؤسسات القطاع العام الكبرى، فضلاً عن نقابات العمال واتحادات الفلاحين. مع وجود مثل هذه القاعدة الاجتماعية، وتصميم برنامج الإصلاح على النحو الذي شرحته السطور السابقة، يصبح برنامج الإصلاح برنامجاً وطنياً بالمعنى الصحيح، وليس مجرد ترجمة لما تريده مؤسسات واشنطن.

ويمكن لقراء هذه السطور، أن يحددوا مدى توافر هذه الشروط في برنامج الإصلاح – الذي تطبقه الحكومة المصرية – في الوقت الحاضر.

نقلاً عن «الشروق»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج