نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / اعترافات ومراجعات (7) «أوهام الطفولة وأحلام الشباب»

اعترافات ومراجعات (7) «أوهام الطفولة وأحلام الشباب»

مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

 

مصطفى الفقي

ما زلت أتذكر ذلك القدر من المحرمات التي صنعها وهم الطفولة.. في سنيِّ العمر الباكرة، فقد توهمت في قريتنا.. أن الباشا الذي يملك، لا بد أن يكون أكثر الناس فطنة وذكاءً وعلماً، وذات يوم دخل عليه أحد مساعديه قائلاً: يا باشا هذا تلغراف تهنئة بالبريد من النحاس باشا – زعيم الوفد ورئيس الوزراء – فقال له الباشا: أطلعني عليه حتى أرى خط النحاس باشا! وبطفولتي البريئة قلت في نفسي – وأنا لم أتجاوز السادسة – إن التلغراف لا يأتي بخط صاحبه، ولكن بدقات حروف الجهاز الذي يكتبه.

وذات يوم في أحد أيام الشتاء، كنت عائداً من زيارة زميل في الدراسة وكان الشارع خالياً، في ليلة باردة وشبه مظلمة، رأيت في طريقي قسيساً يحمل عصاه الطويلة، وقد عرفت بعد سنوات أنه كان القمص بولس عبد الله، راعي كنيسة مدينة دمنهور في خمسينيات القرن الماضي، فأصابتني لحظتها رجفة رعب، وتخيلت – من كثرة ما تم شحنه فينا من خيال مريض وقصص واهية – أن رجل الدين المسيحي سوف يؤذيني، مع أن رجال الدين هم بالضرورة دعاة المحبة وأصحاب الكلمة الطيبة. وتأكد لي وقتها أن المجتمع يفرز أوهاماً تستقر في أذهان الصغار وتسبب لهم الكثير من المخاوف ونقاط الضعف التي قد تتحول إلى مشاعر قوية وصادقة.. في حب الآخرين، والتخلص من العقد التي زرعتها التربية السيئة في وجدان الصغار.

ولعل ذلك يفسر إلى حد كبير.. تعاطفي الشديد مع إخوتنا الأقباط، وإيماني أننا نسيج وطن واحد، ولسنا عنصرين.. كما تردد أغنية سيد درويش الشهيرة. ولقد تحولت هذه الأوهام ومثيلاتها إلى نقاط قوة، تعكس تماماً الرفض الذاتي.. لما تم شحنه وتفريغه في عقول الأجيال الجديدة، خصوصاً من أبناء القرى أو مدارس الأقاليم.

ولقد كنت طفلاً خجولاً.. رغم دائرة الأصدقاء المحيطة بي؛ باعتباري طالباً متفوقاً ومعروفاً، إلا أن ذلك لم يعالج نقطة الضعف لديَّ، حتى كنت أخطب وسط أفواج الدجاج.. التي تجري تربيتها في حظائر المنزل، ويفوق عددها المئات. وإذا ارتفع صوتي صائحاً، ردد أحد الديكة الصياح، وتحركت الدجاجات في أحد الأركان.. ربما خوفاً ورعباً!

وانتقلت بعد ذلك إلى مرحلة الإذاعة المدرسية.. في المرحلة الإعدادية؛ حيث أصبحت متحدثاً معروفاً، وإذاعياً مطلوباً في طوابير الصباح، وعند المناسبات المختلفة والزيارات المفاجئة للمدرسة الأميرية العريقة في مدينة دمنهور، واستبد بي في تلك السنوات حلم الشباب أيضاً، فكنت أتمنى ألا يتم إلغاء الطربوش.. كغطاء رأس وطني للمصريين، وألا يتم أيضاً انتهاء العمل بالألقاب الفخرية، وكنت أقول لزملائي الصغار.. إنني أود أن أصبح مثل الباشا، وأن أضع الطربوش على رأسي، وأصبح زعيماً حزبياً.. مثل من كنت أسمع عنهم؛ صاحب المقام الرفيع النحاس باشا، وأحمد ماهر باشا، والنقراشي باشا، وغيرهم من رموز الحياة السياسية في ذلك العصر.

وقد يرى البعض أن تلك أحلام رجعية – وقد يكون هذا صحيحاً – ولكنني ما زلت أرى حتى اليوم.. أن مصر – التي استقرت فترات في عصر الملكية الدستورية – قادرة على الاستقرار في عهد الجمهورية البرلمانية، وتلك وجهة نظري التي لا يتفق عليها الجميع، وكنت أتحدث مع نفسي دائماً في صمت.. قائلاً: إن الشكل جزء من المضمون، وإن الاهتمام بالمظهر.. ليس رفاهية، ولكنه عناية تلقائية بالجوهر.

وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952، وبدأت أغانيها تصدح في الراديو.. بأهازيج مثل (عالدوار.. عالدوار)، كنت أسمع أبي يشرح – لمجموعة من مساعديه – الفارق بين ثورة محمد نجيب وهوجة عرابي، ويقول: إن ذكاء ثوار يوليو، جعلهم يستبعدون الملك إلى الخارج.. فكان لهم الحكم. أما الثوار العرابيون، فقد استكانوا وابتلعوا الخديعة، فكانت لهم المنافي والسجون.

وكنا – أنا وزملائي – سعداء.. عندما نرسل خطابات بدون طابع بريد للبكباشي جمال عبد الناصر، والصاغ كمال الدين حسين، وغيرهما من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فإذا بنا نتلقى من كل منهم صورة شخصية، وتوقيعاً.. نشعر معه أن كلاً منا قد أصبح شخصية ذات وزن، وأن له كياناً معترفاً به.. حتى من الوزراء ورئيس الحكومة، التي تشكلت في أحضان ثوار 1952.

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان – في نهاية أربعينيات القرن الماضي – عندما انتشر مرض التيفود، وزار بيتنا.. رغم كل احتياطات النظافة، وفقدت شقيقاً صغيراً كان اسمه (يحيى)، وشعرت بحزن طفولي دفين، وما زلت أتذكر منظر جدي.. وهو يبكي، وأمي – التي فقدت ابنها – تواسيه في صبر حزين، وأنا أتساءل عن معنى الموت وكيف أن أخي لن يعود.

… تلك صفحات مطوية من أوهام الطفولة، تسكن في الوجدان، أما أحلام الشباب فدورها قادم!

نقلاً عن «المصري اليوم»

 

 

 

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج