نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / اخبار السلايدر / الحياة الرقمية العربية.. تشريح واقع متغير

الحياة الرقمية العربية.. تشريح واقع متغير

نبيل عبدالفتاح
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

 

تكشف متابعة الحياة الرقمية، عن تعدد مستويات الخطابات.. التي ينتجها الفاعلون على المواقع الوسائطية المختلفة، وذلك بحسب متغيرات مستوى التعليم، ومجالاته الوظيفية؛ الجامعي وما بعده.. وما دونه، وحدود التكوين الثقافي العام، والانتماء الاجتماعي/الطبقي، والمناطقي.. في المدن المريفة، أو القرى. يلاحظ أن بعض هذه الفئات من المتعلمين، يعبرون في خطاباتهم – في صياغتها وبنيتها الركيكة – عن التدهور المستمر في التعليم العام والجامعي – في كافة التخصصات في العلوم الاجتماعية والطبيعية – وهو ما يبدو في سيطرة اللغة العامية السوقية، وركاكة التعبير عن آرائهم، وغلبة الانطباعات المرسلة، وعدم القدرة على استخدام المعلومة الصحيحة، والميل إلى خلق وترويج الأكاذيب السماعية.. أو اختلاقها، وفقدان القدرة على الجدل والسجال أو البرهنة، والميل إلى العنف اللفظي، وتوظيف اللغة العارية والبذيئة، كأداة للسخرية، أو الحط من شأن المخالفين في الرأي، دون نقد أفكارهم إن وُجدت، أو آرائهم المرسلة. 

 

أغلب نماذج هذا النمط من الخطابات العنيفة، يعبِّر عن تراكمات ممتدة.. من تراكم الإحباط، وعدم الإنجاز. ويميل إلى إسناد كافة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. إلى الدولة وأجهزتها، والطبقة السياسية الحاكمة، وهو في بعض وجوهه صحيح؛ دون نظر إلى تعقد أسباب وعوامل تشكل هذه الظواهر والمشكلات، ومواطن الخلل في أساليب معالجتها أو إهمالها، أو سوء السياسات التي انطلقت منها الحلول الفاشلة. أغلب هذه الخطابات المرسلة.. يميل إلى التفاهة، والتبسيطات المخلة، والأخطر.. أنه من خارج أهل التخصص. والأمر هنا لا يقتصر على الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، وإنما في الأسواق الرقمية العربية، في كل المشكلات التي تواجه مجتمعات انقسامية، ووطنيات هشة، لم تستكمل الشروط التاريخية.. والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. لتكوُّن الأمة، في مجتمعات ودول هشة، تأسست على هياكل تأسيسية تكونت أثناء المراحل الكولونيالية. 

 

هويات متصارعة، دينية ومذهبية وعرقية ومناطقية وقومية ولغوية، متمركزة حول ذواتها وتاريخها الخاص، وميثولوجياته (أساطيره) ورموزه.. تحمل رفض الآخر، أو تشويه مكوناته وتاريخه. الدول والنظم القمعية والتسلطية، لم تستطع أن تبلور موحدات عابرة لمكوناتها، وتؤسس لوطنيات حديثة. ومع انكشافها وفشلها.. كدول وطبقات سياسية أوليجاركية، أو تسلطية، أو عائلية، انفجرت هشاشة المكونات الأساسية، وانعكس ذلك على الحياة الافتراضية – بما فيها خريجو الجامعات وما بعدها – في انفجار العنف.. والتمركز حول الذات الجماعية وأساطيرها المحلقة. في خطابات مواقع التواصل الاجتماعي، تبرز الثأرات التاريخية الدينية، والمذهبية، والطائفية، والسياسية، التي تحولت إلى نيران مشتعلة ومستمرة.. من العنف والشظايا اللفظية. لم يعصم بعضهم التعليم، أو خبرات ميراث التجارب السياسية الفاشلة، وانهيار الدول، من أن يدور خطابهم حول الثأرات.

الحياة الرقمية وخطاباتها.. تعكس موت السياسة، وانغلاق المجال العام الفعلي، ومن ثم تحول المجال العام الرقمي العربي.. لفضاءات غامرة بالكذب والافتراءات، وتجليات لأزمات النظم التعليمية، وفشلها بعد الاستقلال، والطابع المحلي لاهتمامات هؤلاء «المتعلمين»، من حاملي الشهادات العليا وما بعدها؛ حيث تبدو تجليات النزعات العدوانية إزاء الآخرين، ممن لا يشاركونهم هذه الانطباعات المرسلة، والتقييمات الذاتية، وأحكام القيمة الأخلاقية.. المتمركزة حول الأهواء الشخصية، والميل إلى كيل المديح للذات ولمناصريها، ونزعة احتكار الوطنية وأوصافها، ونزعها عن المخالفين لهم، والاتهامات المرسلة، في إهاب لغوي فظ وعنيف، وميل بعضهم للغة العارية؛ التي تتسم بالبذاءة والسب والقذف في علانية، دونما سند أو مسوغ، أو معلومات موثقة تحمل هذه اللغة النابية. 

 

الأخطر.. هو توزيع الشائعات والأخبار الكاذبة، في ظل تدهور مستويات الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب.. من الناحية المهنية، وتراجع تأثيره منذ ما قبل جائحة كورونا وما بعدها، وعدم اهتمام الطبقات السياسية الحاكمة في المنطقة.. بالصحافة الرقمية، لصالح إعلامها الفضائي.. الذي يشكل إحدى أدواتها في السياسة الخارجية، وفي السيطرة السياسية الداخلية في دول اليسر، ودول العسر العربي. 

لا شك أن ذلك أدى إلى شيوع التهميش.. لدى بعض الصحفيين والإعلاميين والكتّاب، وتحول بعضهم إلى الواقع الرقمي ومواقعه، بحثاً عن حضور وفرص ما، من خلال الخطاب الرقمي، وتحول بعضهم من مواقع التأييد الإمعي للنظم وقادتها، إلى نقاد لكل شيء، وهو ما شاع.. لأن الأجيال الجديدة لا تعرف التاريخ الكتابي لهؤلاء الكتّاب! الحياة الرقمية أصبحت أسيرة في غالبها – والاستثناءات الرصينة حاضرة في حدود دوائرها – للغة اليومية، وللانفصال عما يحدث حولها في الدنيا، إلا استثناء، وغالباً بعضها وراء الأخبار الكاذبة، أو المثيرة سياسياً، أو دينياً، أو جنسياً. 

 

الأخطر أن بعض الاتجاهات اليومية السائدة، باتت تركز على الكراهية، أو الهجاء، والتحقير من شأن ذوي الآراء والاتجاهات الدينية أو السياسية والمدنية، أو تصفية حسابات حول الاختلاف على بعض المراحل التاريخية، دونما معرفة تاريخية عميقة وموضوعية. بعضهم يلجأ إلى استخدام اللغة الدينية الوضعية.. في نزع التدين عن مخالفيهم، أو وصفهم بالكفر، والخروج عن الملة، أو الأخلاق، وتهديد سلامة المجتمع، وكلها تعبيرات عن فوائض العنف الاجتماعي والديني والمذهبي، كنتاج لميراث التسلطية السياسية والدينية التابعة لها، وتمدد ثقافة العوام الدينية الوضعية، أو التدين الشعبي للعوام، الذي امتزج طيلة عديد العقود بما روجت له الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، بعيداً عن بعض النظم والطبقات السياسية في العالم العربي، أو تواطُؤات بعضها.. وتوظيفها لها في الصراعات الإقليمية مع النظم السياسية الأخرى. 

على الرغم من تواجد قلة من الجادين عربياً، ودورهم الرصين على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن نظرة على الصراعات العنيفة والحادة.. على نشر الآراء المرسلة، والتفاهات المتبادلة، تكشف عما يجري في حنايا المجتمعات العربية.. من صراعات واحتقانات وعنف، وتشير إلى أن بعض الأجيال الشابة.. لم تعد صامتة، إزاء سطوة بعض الأفكار الدينية الوضعية المتشددة.. لبعض رجال الدين والجماعات الإسلامية الراديكالية، التي تم ترويجها منذ أكثر من ستة عقود، وباتت موضعاً للمساءلة، والرفض، والتشهير بها، وإبراز بعض طوابعها غير الإنسانية. 

ووصل الأمر إلى السخرية ببعض آراء رموز السلفية، وغيرهم من رجال الدين، بما فيهم غالب المؤسسات الدينية العربية، التي يبدو أنها في حيرة من أمرها، ويبدو بعضها تائهاً في واقع رقمي واجتماعي متغير، وأجيال جديدة لم يعد لديها القابلية لاستهلاك هذه الآراء.. والتفسيرات الدينية المتشددة، أو قبول الآراء البسيطة.. التي يروجها بعض الغلاة، ودخلت جزءاً من تدين العوام.. وأفكارهم حول الأديان بما فيها المسيحية، بالنظر إلى جمود غالب المؤسسات الدينية – وقياداتها وقواعدها وخطاباتها الدينية الوضعية التقليدية – التي يبدو بعضها مفارقاً للواقع الموضوعي الكوني والإقليمي والوطني، في سياقات مضطربة وقلقة وسائلة، بينما خطابات التفاهة والجهل.. والتبسيط المحلية، تُغرق الحياة الرقمية العربية، وتعيق العقل العربي في تشكلاته المختلفة.     

(وللحديث بقية)

 

نقلاً عن «الأهرام».

شاهد أيضاً

فلسطينيون يقتادون اسرائيليا في خان يونس بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (أ ف ب)

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على مواقع يمكن أن تكون أهدافا للقصف الجوي الإسرائيلي على القطاع.

السفير شريف كامل واللواء المشرفي وقرينتاهما أثناء عزف السلام الوطني. (تايمز أوف إيجيبت)

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في حرب أكتوبر المجيدة.