نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / مراجعة نقدية لسُبل مواجهة الانقلابات العسكرية (1-2)

مراجعة نقدية لسُبل مواجهة الانقلابات العسكرية (1-2)

د. أحمد يوسف أحمد
د. أحمد يوسف أحمد

ليست الانقلابات العسكرية بالظاهرة الجديدة. وإذا اكتفينا بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. وموجة استقلال الدول في أعقابها، فقد شاعت الانقلابات العسكرية في بلدان العالم الثالث، وكان ذلك انعكاسًا لأسباب داخلية.. مفادها عدم كفاءة ونزاهة النظم الحاكمة، أو تبعيتها للخارج، أو مجرد التعطش للسلطة. أو لأسباب خارجية.. تكون الانقلابات بموجبها انعكاسًا لإرادة خارجية تحقيقًا لمصالح الدولة أو الجهة الراعية للانقلاب.

ويعني هذا بداية.. أن المساواة بين الانقلابات العسكرية غير علمية، فبعضها كان مقدمة لثورات كبرى؛ كما في انقلاب 23 يوليو 1952، الذي تحول – مع التأييد الشعبي – لثورة غيّرت وجه مصر والوطن العربي وأفريقيا والعالم الثالث، ولعبت دورًا مقدَّرًا في الشؤون العالمية.. من خلال حركة عدم الانحياز، وبعضها الآخر أُلقي في سلة مهملات التاريخ.

 

وقد ساعد انتشار الانقلابات العسكرية.. ضعف البنى السياسية في بلدانها؛ بمعنى ضعف الأحزاب والقوى السياسية، وتشتتها.. بحيث كانت المؤسسة العسكرية وحدها، هي القادرة على التغيير، علمًا بأن النظم الديمقراطية في البلدان المتقدمة.. لم تسلم من الظاهرة، عندما تعرضت لأزمات مصيرية، كدفع الجيش الفرنسي بالجنرال ديجول للحكم في 1958، نتيجة إخفاق الجمهورية الرابعة.. في مواجهة حرب التحرير الجزائرية. والانقلاب على النظام الفاشي في البرتغال 1974، نتيجة تمسكه بسياسته في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا.. رغم ضراوة حركات التحرر فيها. وفي مرحلة لاحقة، بدا وكأن النظم الحاكمة في العالم الثالث.. وطدت أركانها؛ بغض النظر عما إذا كان ذلك قد تم بطرق ديمقراطية أو غير ديمقراطية، فتراجعت ظاهرة الانقلابات العسكرية.

 

غير أن السنوات العشر الأخيرة شهدت عودة ملحوظة للظاهرة.. في أفريقيا بصفة خاصة؛ ففي تلك السنوات.. وقع 13 انقلابًا في 10 دول، وهو ما يعني أن هناك دولًا شهدت أكثر من انقلاب (مالي 3 والسودان 2)، ومن المعلوم أن الاتحاد الأفريقي.. لديه سياسة لمكافحة الانقلابات؛ إذ تنص المادة 30 من قانونه التأسيسي على «عدم السماح للحكومات التي تصل للسلطة بطرق غير دستورية، بالمشاركة في أنشطته»، ويُضاف لهذا ما يُفرض عادة من عقوبات على النظم الانقلابية، والتهديد بالتدخل العسكري لإزاحتها.

وتهدف هذه المقالة لتقديم نظرة نقدية لهذه الآلية.. مبنية على مشكلات تطبيقها، ومدى فاعليتها؛ ليس لترك الحبل على الغارب للانقلابات، أو التهاون في مواجهتها. وإنما لجعل هذه المواجهة.. أكثر فاعلية، واتساقًا.. مع هدف حماية الديمقراطية. وأعلم أن ما سأطرحه من أفكار سيثير جدلًا واسعًا، غير أن كل ما أرجوه، التعامل معها بعقل مفتوح.. يهدف لحماية حقيقية للديمقراطية، وليس مجرد التمسك بآليات.. قد لا تنجح في ذلك بالضرورة، بل قد تتسبب في انتكاسات أخطر، وثمة ثلاث ملاحظات أساسية في هذه المراجعة:

 

تتعلق الملاحظة الأولى بالاختلاف حول مفهوم الانقلاب؛ وهو اختلاف يُفضي أحيانًا إلى مواقف مضادة للديمقراطية، والمثال الأشهر في هذ الصدد هو اعتبار الاتحاد الأفريقي ثورة 30 يونيو انقلابًا، وتعليق عضوية مصر فيه بناءً على ذلك، بينما هي واحدة من أعظم الثورات الشعبية في التاريخ المصري، وكان من شأن فشلها.. استدامة نظام حكم فاشي غير مسبوق، كذلك فإن الإطاحة بحكم البشير في السودان 2019، جاء عقب حراك شعبي واسع.. ضد نظام حكم استبدادي دام 30 سنة. فالنظم الشرعية – بالمعنى القانوني – ليس من الضروري أن تكون شرعية بالمعنى السياسي.. (أي بمعنى رضا المواطنين)؛ فهي تفقد هذه الشرعية.. عندما تنحرف عن الصالح العام، وبالتالي فإن عقاب الانقلابات.. التي تكون انعكاسًا لإرادة شعبية غلابة، ليس سوى تكريس للفاشية، وهو ما يمثل إشكالية حقيقية لآلية الاتحاد الأفريقي لمواجهة الانقلابات.

 

أما الملاحظة الثانية فتنبع من عدم فاعلية آلية الاتحاد الأفريقي؛ إذ يُلاحظ من مآل ما اعتبره الاتحاد انقلابات.. أن هذه الآلية إما أنها لم تغير من الأمر شيئًا، بدليل استمرار النظم التي أقامتها الانقلابات الأخيرة.. في بعض بلدان غرب أفريقيا وغيرها، أو أنها توصلت لتسويات.. يُظهر إمعان النظر فيها أنها بُنيت على الواقع الذي ترتب على الانقلابات، ولم تمثل عودة للوضع السابق عليها. فهل تعني هاتان الملاحظتان ترك الحرية للانقلابيين، للعبث بالمؤسسات الدستورية؟

 

بالتأكيد لا. لكن المطلوب هو تطوير آلية الاتحاد الأفريقي.. التي تبدو صماء؛ لا تفرق بين حالة انقلاب يستعيد فيها الشعب حقوقه أو استقلاله، وأخرى تعبث فيها الانقلابات بالمؤسسات الدستورية.. لمصالح ضيقة. ويمكن أن يحدث ذلك التطوير بتعزيز آلية تعليق العضوية، بآليات تسبق الانقلابات، وأخرى لاحقة لها. فعندما تُرصد تطورات تُنبئ باحتمالات عدم استقرار في بلد ما، يمكن أن تكون هناك آليات لإسداء النصح.. من أجل تفادي تدهور الموقف؛ إلى حد حدوث انقلاب، أو اضطرابات خطيرة تُفضي إلى نتائج كارثية.

فإذا حدثت الاستجابة، وتم تفادي الأزمة.. فبها ونعمت. أما إذا وقع المحظور، فلا بأس من استمرار الآلية الحالية، وإن كان من الضروري تعزيزها بجهد حقيقي.. للتوصل إلى حلول أساسها الاحتكام النزيه للشعب.. من أجل إقامة مؤسسات ديمقراطية جديدة. وليس هذا بالعمل السهل، لأنه يتطلب إمكانات مؤسسية، وكوادر كفؤة.. تستطيع أن ترصد وتتنبأ. وخبراء وحكماء.. بمقدورهم تقديم مقترحات موضوعية للحلول.. وهكذا، بدلًا من الاكتفاء بإجراءات عقابية.. إزاء أوضاع قد تكون أكثر استجابة لمصالح الشعوب من الأوضاع السابقة على الانقلاب، كما يبدو واضحًا من خبرات كثيرة سابقة.

 

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة فتتعلق بكارثة التدخل الخارجي.. لوأد الانقلابات، وقد هددت به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وانتهت المهلة التي حددتها لقادة الانقلاب للتراجع.. قبل التدخل، وأكتفي هنا بأشد التحذير من وقوعه.. لاعتبارات يتناولها الجزء الثانى من المقالة.

 

نقلاً عن «الأهرام»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج