نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / وضع النتائج قبل المقدمات لدى «الجماعات السياسية الإسلامية» (2- 2)

وضع النتائج قبل المقدمات لدى «الجماعات السياسية الإسلامية» (2- 2)

عمار علي حسن
عمار علي حسن

تناولت – في الجزء الأول من هذا المقال – أربعة من الأسباب التي تؤدي إلى خلق نوع من «البرهان» المعكوس.. لدى الجماعات السياسية الإسلامية، وهي: تحديد الأهداف مسبقاً، وضعف التكوين المنهجي أو العلمي، وضعف التكوين الفقهي، ومغازلة القواعد عبر الدعايات السريعة، وأكمل هنا الأسباب.

السبب الخامس هو التماهي مع تجربة تاريخية حولت الدين إلى أيديولوجيا، فمشروع ما يُطلق عليه «الإسلام السياسي».. يقوم برمته على هذا الأمر، ونظراً لأن الأيديولوجيا تنزع بطبعها إلى التبرير، وترمي إلى تعبئة الناس حولها وجذبهم إليها، فإنها تدفع مَن ينصتون إلى أقوالها وتصوراتها إلى عدم الالتزام بأي شيء سوى الإيهام، ويصبح حظ ما فيها من علم.. هو ما قدّره الراعون لها أو المؤسِّسون؛ حسب تصورهم لهذا، دون أن يكون ما أبدوه أو أعطوه علمياً بالضرورة، فنحن طالما سمعنا اصطلاح «الاشتراكية العلمية»، وتحته تم ترويج الكثير من التصورات.. التي لا يمكن البرهنة عليها. وعلى المنوال نفسه سوَّق منتجو الخطاب الديني.. كثيراً من تصوراتهم، على أنها «علم».. دون أن يكون لهذا أي نصيب من صواب؛ وفق قواعد العلم المنظورة والمشهورة.

ويُعد كتاب «معالم في الطريق».. مثالاً للاستنتاجات أو الخلاصات، التي لم يعتنِ صاحبها أبداً بالبحث عن براهين شرعية أو فقهية، أو حتى عملية وعلمية؛ فالرجل يضع عناوين لافتة لفصول كتابه، وواضحة ومحددة، ولا تخطئها عين، ثم يمضي في بناء برهان مسربل.. ببلاغة ظاهرة، وقدرة هائلة على الإيهام، غير معني أو متوقف عند الالتزام بأصول شرعية.. متعارف عليها عند دارسيها والمبلغين بها، ولا حتى بمقتضيات العلم ومناهجه، ومتطلبات السياق التاريخي الموجود، وما كان يفرضه من مشكلات حياتية، تتطلب تفكيراً يعمل بالأساس على إيجاد حل لها.

فالكتاب – الذي تأثر صاحبه بعيداً بآراء أبوالأعلى المودودي – ناقش قضايا «الإيمان والكفر»، و«الجاهلية والإسلام»، و«الجيل الفريد» أو «الرباني»، و«الحاكمية»، و«الجهاد»، ليطرح الكاتب فيها رأيه.. الذي يخدم الهدف الذي يرمي إليه، ثم يبحث في آيات القرآن أحياناً عما يسنده، بحيث بقيت هذه الآيات لديه.. أشبه بقلائد زينة، يرصع بها نصه كي يعطيه – وهماً – إطاراً شرعياً، أو يضفي عليه طابعاً ألوهياً، بينما هو في الحقيقة يتلاعب بالنص، ولا ينصت إلى ما يفرضه، ويصنع هو نصه الموازي.. مستغلاً قدراته البلاغية في سبيل الإيهام والانجذاب.

ويتحدث كتاب «إدارة التوحش» – المنسوب إلى شخص يُدعى أبوبكر ناجي – عما يسميه «قواعد العمل والسياسات»، التي يجب اتباعها.. في سبيل تحقيق ما يسميه «شوكة النكاية» أو إنهاك المجتمعات التي تقع تحت سيطرة مقاتلي داعش، وكيفية استعمال «الشدة» في التصرف حيال الغير، دون أن يكلف نفسه عناء تبيان الأصول الشرعية لهذه القواعد، وتلك السياسات، اللهم إلا الائتناس ببعض التجارب التاريخية للمسلمين الأوائل، التي يقتطعها أحياناً من سياقها القديم، ويزرعها في سياق جديد يخدم منفعة التنظيم ومصالحه.

ويبدأ الكتاب كله بعبارة: «الحمد الله والصلاة والسلام على رسول االله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.. أما بعد» ليوحي لمَن يقرؤه أن ما جاء فيه هو على درب النبي محمد، (ص)، و هو ليس بذلك أبداً، بل إنه يناقض الخط البياني الذي سارت عليه الدعوة في مطلعها، ويتنافى مع نصوص القرآن، التي تقيد الحرب، فلا تكون إلا دفاعية وعادلة.

أما كتاب «ميثاق العمل الإسلامي» – الذي يُعد بمنزلة دستور «الجماعة الإسلامية» – فهو يزعم أن مصادره هي القرآن الكريم والسنة النبوية، ويقول إن الغاية هي رضا الله واتباع نبيه، وإن الفهم يقوم على «شمول الإسلام»، وإن الهدف هو «إعادة الناس إلى ربهم»، و«إقامة خلافة على نهج النبوة»، وإن الطريق إلى تحقيق هذا.. هو «الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد»، وإن الولاء لله ورسوله والمؤمنين.

وإن الزاد هو التقوى والعلم والتوكل، وإن العداء يكون للظالمين والكافرين، وإن الاجتماع هو لغاية واحدة بعقيدة واحدة وتحت راية واحدة.

ثم يجعل الكتاب من قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام فريضة، رافضاً اقتصار الجهاد على الوسائل السلمية.. مثل الكتابة والخطابة والتربية أو الدخول إلى العمل السياسي – الرسمي والعلني – من بابه الشرعي؛ كتكوين الأحزاب، وخوض مختلف أنواع الانتخابات، ليكون الجهاد هذا – في نظر واضعيه – هو «القتال والدم وقوة السلاح».

ولأن الجماعة قالت ابتداء.. إن القرآن والسنة مصدر أفكارها، فكان على واضعي كتابها هذا، أن يفرطوا في استدعاء آيات وأحاديث نبوية.. لتبرير ما انتهوا إليه، والذي وضعوه مسبقاً ليحقق أغراضهم، ويعكس تصوراتهم، وهنا يتحول النص من إطار حاكم.. إلى وسيلة تبرير. في الوقت نفسه، فإن التصور – الذي يتلاعب بالنص – لا يجعل من العقل إطاراً ولا موئلاً وضابطاً، إنما هو غائب كثيراً، وسط أوهام وإيهام لا حد له.

إن «الجماعة الإسلامية» عادت وضبطت الأمر، في المراجعات التي بدأتها عام 1997، لكن الضبط هذا كان يميل إلى الواقعية والعقلانية بعض الشيء، لكنه لم يحل المعضلة المنهجية، التي تضع النتائج قبل المقدمات؛ فهذه المرة تغير الهدف – ولو مؤقتاً – فعاد النص يخدم ما تغير، ليس أكثر ولا أقل.

وأعتقد أن استمرار هذه الآفة.. في تفكير جماعات وتنظيمات «الإسلام السياسي»، سيحُول دون حدوث تغير استراتيجي في مسلكها، لأنه سيصنع – طوال الوقت – داخل بنيتها المغلقة.. أجيالاً مستلبة حيال الإفراط في التلاعب بالنص، وهم يظنونه رأي الشرع، وغاية الدين الإسلامي، وما هو بذلك أبداً، إنما هو تأسيس على شفا جُرُف هارٍ، أو تلٍّ سافٍ من رمل متحرك، ما إن يُقام على أكتافه شيء، حتى ينجرف إلى الهاوية.

نقلاً عن «المصري اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

نبيل عبدالفتاح

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»