نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب

غياب النهار

جمال فهمي
جمال فهمي

 

جمال فهمي

أنتمي إلى آخر جيل.. كان عبد الحليم حافظ قيثارته الخالدة. ومع ذلك، مات حليم.. ولم أعرف بالنبأ الحزين، ولا بركان العواطف المشبوبة الذي فجّره، إلا بعد مرور نحو أسبوعين، فقد كنت آنذاك أكابد أول تجربة سجن في حياتي.. عقب انتفاضة الشعب في 18 و19 يناير 1977، ولم يكن هذا حال المئات من رفاقي المساجين (كانوا تقريباً كل عقل مصر وضميرها)؛ فالجميع علم بالخبر عند بثه.. عدا بضعة فتيان وشباب – منهم العبد لله – شاء حظهم السيئ وقتها.. أن يُحشروا في جوف سجن القلعة المملوكي الرهيب (هو الآن متحف)، حيث لم يكن يتاح لي الكلام مع أحد، ولا مغادرة زنزانتي الانفرادية المعتمة الرطبة.. سوى مرة أو مرتين في اليوم.. للذهاب إلى المرحاض.

 

… عندها كنت أختلس – في طريق الذهاب والعودة.. القصيرة جداً – نظرة إلى ما تيسر من أفق سماء الوطن.. المقطوع امتداده، والمجرحة صورته البهية بجدران السجن. بعدها وقبلها، كان الزمن يموت تماماً، وتفقد جثته أية ملامح، فيستحيل تعاقب وتداعي الثواني والدقائق والساعات والأيام.. شيئاً مبهماً يستعصي على العقل المحبوس إدراكه.

 

ما علينا.. أعود إلى نبأ موت عبد الحليم، فقد وشت به علامات وإشارات.. تسربت إلى زنزانتي رغماً عن الحراس، وسماكة وقساوة الجدران، غير أنني – للأسف – لم أكن في حال تسمح لي بالتقاطها، وفهم دلالتها، لكنى استرجعتها بعد ترحيلي من «القلعة».. إلى سجن «استقبال طرة»؛ حيث عرفت هناك الخبر، ومن ثم ربطت بينه وبين ما سمعته، وأنا ممدد منهك القوى فوق الفرشة البائسة القذرة، التي هي كل محتويات ومستلزمات الحياة.. في الزنزانة رقم (21).

 

لقد كانت الإشارات والعلامات كلها.. سمعية طبعاً، ربما أظرفها – وأكثرها كوميدية – ما قاله لي الضابط الذي زارني في الزنزانة.. بعدما أبلغه الحراس بأنني نفذت إضراباً عن تناول الطعام الفاخر جداً (هذه ليست سخرية، بل حقيقة يضيق المجال عن شرح سببها) الذي كانوا يقدمونه لمساجين القلعة، فقد أخذ الضابط يقول لي كلاماً لزجاً.. معناه أن امتناعي عن الأكل، لن يؤثر في شيء، ولن يجبرهم على ترحيلي من هذا القبر.. إلى سجن آخر عادي. ولما أغاظه أنني لا أرد عليه، ولم أتحرك من رقادي (في الواقع لم أكن أقوى على النهوض)، هتف باللزوجة نفسها: أنت ح تعملي فيها عبد الحليم حافظ.. طيب خليك كده لغاية أما تروح في ستين داهية مثله. ثم قفل خارجاً وصفق الباب الثقيل خلفه!

 

أما أجمل الإشارات وأحلاها، فقد كانت هذا البستان من الشدو الشجي.. الذي تفجّر فجأة خارج السجن، وغافل الحراس، وهاجم – بوهن – مسامعي، وأنا قابع في العتمة. لقد كان بإمكان أذني أن تلتقط في عمق الليل.. صوت حليم، وهو يتسلل (بكثافة غير عادية).. آتياً من الحي الشعبي الذي تقع القلعة – وسجنها – في حضنه. وحتى الآن، ما زالت ذاكرتي تحتفظ بأطلال نغمات أغنيات رائعة، كنت أستكملها همساً، لكي تعينني على احتمال هذا الغياب القسري.. عن زخم الدنيا.

 

… مثلاً، همهمت مرة خلف الصوت الواهن، الذي كنت أسمعه بصعوبة:

على قد الشوق اللي في عيوني.. يا جميل سلِّم

ده أنا ياما عيوني عليك سألوني.. وياما بتألم.

 

غير أن أبهى وأروع ما ترنمت به – خلف حليم – وقتها:

وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها / جانا نهار.. مقدرش يدفع مهرها

يا هلترى الليل الحزين / أبو النجوم الدبلانين / أبو الغناوي المجروحين

يقدر ينسيها الصباح / أبو شمس بترش الحنين؟

أبداً.. أبداً بلدنا للنهار / بتحب موال النهار.

 

نقلاً عن «أخبار اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

فلسطينيون يقتادون اسرائيليا في خان يونس بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (أ ف ب)

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على مواقع يمكن أن تكون أهدافا للقصف الجوي الإسرائيلي على القطاع.

السفير شريف كامل واللواء المشرفي وقرينتاهما أثناء عزف السلام الوطني. (تايمز أوف إيجيبت)

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في حرب أكتوبر المجيدة.