نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / هل تراجع حقاً الاهتمام بالقضية الفلسطينية؟

هل تراجع حقاً الاهتمام بالقضية الفلسطينية؟

سعدالدين إبراهيم
سعدالدين إبراهيم

تساءل أستاذ الإعلام البارز، د. ياسر عبد العزيز في مقال رأي له بالمصري اليوم: «لماذا تراجع الاهتمام بالقضية؟».
ورغم أن عنوان المقال لم يُفصح عن أي قضية يقصد فإن جيله، وربما جيل أسبق، يفهم تلقائياً أن «القضية» هي القضية الفلسطينية، فمنذ نكبة فلسطين عام 1948، وعلى امتداد السبعين عاماً التالية، كان المفهوم تلقائياً بالنسبة للمفكرين والنشطاء العرب.. أن القضية هي فلسطين.

فرغم تعدد القضايا الأخرى التي شغلتهم، ومنها تحرير أوطانهم من مستعمر خارجي، أو مستبد داخلي، إلا أن شاغلاً مشتركاً ظل في بؤرة وعيهم، وهو فلسطين.
ولم يكن ذلك فقط بسبب الجُرم الذي وقع في حق شعب عربي شقيق، اقتُلع معظمه من أرض أجداده، وجرى تشريدهم كلاجئين في بُلدان مجاورة، أو على امتداد الكرة الأرضية. ولكن أيضاً لأن إسرائيل استمرت – بل وتمادت في عدوانها وإذلالها لأبناء الشعب الفلسطيني – وساعدها على ذلك التأييد الغربي، عموماً، والأمريكي خصوصاً؛ تمويلاً، وتسليحاً، ودعماً دبلوماسياً، على امتداد قرن كامل.

واستغلت الصهيونية العالمية الشعور الجماعي بالذنب.. لما حاق باليهود الأوروبيين من محارق على يد أدولف هتلر والنازية الألمانية. وذلك كله معروف ومدروس تفاصيله ودقائقه.

ولكن قابل ذلك الإجماع الغربي المتحالف مع إسرائيل والصهيونية، إجماع عربي، شعبي وحكومي، بالتضامن مع الفلسطينيين، بما تيسر لهم من قوة عسكرية محدودة (1948، 1956، 1967، 1973). ولكن ظلت «القضية» هي فعلاً قضية العرب الأولى في كل المحافل الإقليمية والدولية إلى منتصف السبعينيات، حينما طلبت منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) – على لسان زعيمها ياسر عرفات – أن تكون المنظمة هي الممثل والمتحدث الوحيد باسم فلسطين والفلسطينيين، وحصل على موافقة مؤتمر القمة العربية في الجزائر على طلبه.

ربما كان المقصود بطلب ياسر عرفات، أن تكف كل من الأردن ومصر عن الحديث باسم الفلسطينيين، وأن يتركوا ذلك لمنظمة التحرير الفلسطينية (أو له هو، أبو عمّار، شخصياً!).

ومع مرور عدة سنوات دون تقدم يُذكر للقضية، قام الأطفال الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بانتفاضتهم الأولى، حيث واجهوا الدبابات والمصفحات الإسرائيلية.. بالحجارة، فكانت تلاحقهم في الشوارع والحواري والأزقة، في مشاهد نقلها الإعلام بتعاطف شديد – على غير العادة، مع أولئك الأطفال – وهو ما أحرج إسرائيل.. والمتعاطفين معها في واشنطن، وغيرها من العواصم الغربية، ونتج عن ذلك التعاطف الاتفاق الشهير بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك – رابين – بمباركة أمريكية في كامب ديفيد. ومنذ ذلك الحين، وكل إنجاز في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، لا يتم إلا نتيجة انتفاض شعبي.

وليس في ذلك أي غرابة؛ فبريطانيا لم تُسلّم بالمطالب الوطنية المشروعة، إلا بعد ثورتنا الشعبية العارمة عام 1919. وقد تكرر نفس الشيء في انتفاضات وطنية مماثلة في العراق (1920)، وفي سوريا ولبنان في ثلاثينيات القرن العشرين، وفي الجزائر مع فرنسا في خمسينيات وستينيات نفس القرن. وكل تلك الأمثلة تؤكد حقيقة وحيدة وهامة، وهي أنه لم يحدث في التاريخ الحديث (أي منذ القرن الثامن عشر) أن حرّرت حكومة أو شعب بلداً أو شعباً آخر، فالشعوب هي التي تحرر نفسها، سواء ضد محتل أجنبي، أو مُستبد داخلي. وينطبق ذلك على الفلسطينيين، كما انطبق على غيرهم، من قبلهم، ومن بعدهم.

ولذلك أقول للإعلامي الكبير د. ياسر عبد العزيز، إنه ربما تركُ القضية لأصحابها.. هو عين الصواب، وكما يذهب أحد أقوالنا المأثورة: «أهل مكة أدرى بشعابها».
وإنني – سعد الدين إبراهيم – أرى خطوطاً جديدة، معظمها غير مقصود – يتوازى بعضها ويتقاطع البعض الآخر – نحو خلق حقائق جديدة على أرض فلسطين، بما فيها إسرائيل والضفة وغزة، منها:

1- أنه رغم قوة إسرائيل الكاسحة – عسكرياً وتكنولوجياً ومخابراتياً – فإنها لم تحقق الأمن والسكينة لمعظم مواطنيها، فصواريخ فتح – رغم بدائيتها – تصل إلى قرى ومدن إسرائيلية، تخلق من الذعر والخوف.. ما لا يفيد معه أي تفوق مادي وتكنولوجي وعسكري إسرائيلي.

2- أن معدلات التوازن السكاني بين اليهود والفلسطينيين، على أرض فلسطين التاريخية، هي في الوقت الحاضر (2023) – طبقاً للمصادر الإحصائية الإسرائيلية – زيادة طفيفة لعدد السُكان اليهود، يُقابلها زيادة أكثر فى معدلات رُبع القرن القادم، أي إلى سنة 2045، والمعادلة السكانية على أرض فلسطين التاريخية؛ أي من البحر الأبيض المتوسط حتى مجرى نهر الأردن والبحر الميت، ستميل لصالح الفلسطينيين: 55% إلى 45%.

3- أن ذلك هو المُرجّح، لأن مصادر هجرة يهود الخارج من الغرب الأوروبي والأمريكي والأسترالي، قد تناقصت في السنوات العشرين الأخيرة بشكل محسوس. بل وهناك مؤشرات إحصائية تُشير إلى أن أعداد العرب الفلسطينيين ستتجاوز تلك الخاصة باليهود الإسرائيليين.

4- وربما كان ذلك وراء دعوة الدكتور شبلي تلحمي – أستاذ كرسي أنور السادات للسلام في جامعة ميريلاند الأمريكية – إلى قيام تعدد عرقي يهودي لأبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ويدعم هذه الدعوة حقيقتان أخريان على الأرض: الأولى: أن مائتي ألف فلسطيني عربي يعبرون من الضفة والقطاع يومياً للعمل داخل إسرائيل. والحقيقة الثانية: هي تزايد عدد الدول العربية التي اعترفت بإسرائيل من اثنتين – مصر والأردن – إلى عشر، هي بلدان: الكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات، وعُمان، واليمن، والصومال، والسودان، وتونس، والمغرب.

ويُفسر هذا كله تناقص اهتمام الإعلام العربي بالصراع مع إسرائيل، إلا ربما في لحظات الاشتعال المسلح بين حماس أو الجهاد من قطاع غزة، أو حزب الله من جنوب لبنان وإسرائيل.

وخلاصة القول، هي أن إسرائيل يتم احتواؤها في الشرق الأوسط، ولم يعُد الصراع العربي معها هو الشاغل الأول. وبتعبير آخر، أصبح الشرق الأوسط كله – عرباً ويهوداً، أتراكاً وإيرانيين – جزءاً من عالم كوني جديد، تتصالح فيه المصالح.

والله على ما أقول شهيد.
وعلى الله قصد السبيل.
نقلاً عن «المصري اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

مصطفى الفقي

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

نبيل عبدالفتاح

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة