نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / تماسك مجتمعنا.. فرص سانحة وتحديات

تماسك مجتمعنا.. فرص سانحة وتحديات

عمار علي حسن
عمار علي حسن

لا غنى لأي مجتمع بشري.. عن تماسكٍ يحفظ وجوده، ويضمن استمراره.. على قيد الحياة؛ فالتماسك قيمة مهمة مركزية، وفضيلة إنسانية ونفسية وثقافية، يعمل من أجلها كثيرون.. ممن يفهمون أن بدونها، خطرًا شديدًا على بلادهم، يصنعه التفكك والتشرذم والانقسام والتطاحن والتباغض، وتغذيه الأنانية واللامبالاة، وتهدده الخطط التي يضعها الأعداء، الذين يدركون أن غيابه.. هو السلاح الأمضى، الذي يحقق لهم أهدافهم.

والتماسك لا يُبنَى على سبب واحد، ولا يُهدَم مرة واحدة؛ فأسباب قيامه تُنسَج على مهلٍ، وتصنع شروطها ووجودها.. بإرادة الجماعة ووعيها. والتماسك يولد وينمو.. عبر سنوات طويلة؛ قد تكون عقودًا لدول جديدة، أو قرونًا لدول قديمة. لكن يمكن لجديد أن يتماسك سريعًا، ولقديم أن يتباطأ في تحقيق هذا، إن كان المجتمع الذي يشكل الدولة.. موزعًا على هويات عدة؛ منحدرة أو راجعة إلى أعراق أو أديان أو مذاهب أو لغات أو لهجات أو طبقات وشرائح أو غايات ومقاصد.

ومن الأشياء التي تُحمد للمجتمع المصري، أنه يميل – بكل كيانه – إلى التماسك.. حتى في الملمَّات، وطالما وضعته الظروف الصعبة، والتغيرات الجارفة.. في اختبارات شديدة القسوة، لكنه كان قادرًا على تجاوزها، لا يدعها تشرخ جسده، أو تهز كيانه، أو تجعل أيًّا من أفراده، يكفر تمامًا ببقية الموجودين معه على هذه الأرض، والصانعين مثله لهذا التاريخ، والناظرين مثله إلى ما هو آتٍ.

ويعود تماسُك مجتمعنا إلى عوامل عدة، يمكن ذكرها على النحو التالي:

1 ـ الخبرة التاريخية الطويلة: فالمجتمع المصري موغل في القِدم، يضع قدمًا عفية في قلب التاريخ البعيد، وقد استغرق تشكله على النحو الماثل أمامنا الآن آلاف السنين. وهذه العراقة، جعلته يمر بكثير من التجارب؛ متقلبًا بين أفراح قليلة، وأتراح كثيرة. تعلَّم منها كيف يواجه الظروف الطارئة، التي تحمل معها أسبابًا للاهتزاز والتصدع والتفسخ.

2 ـ الثقافة الأصلية الجامعة: وهي ثقافة تتمتع بقدر كبير من التجانس والتناغم، وتغذيها – في الوقت نفسه – ثقافات فرعية. ومع وجود بعض التباينات بين سكان الدلتا وسكان الصعيد، فإن أغلب المعارف والقيم والاتجاهات والتصورات والطقوس.. متجانسة؛ فالأساطير والحكايات الشعبية واحدة، أو متقاربة، ومتجذرة ومتداولة، والأمثال والحكم متكررة، تتناقلها الألسن عبر الأزمنة والأمكنة. وهناك توافق عام.. على ما هو صواب وما هو خاطئ، وما هو حلال وما هو حرام. وهناك إدراك متقارب.. للهدف الأكبر في حياة المصريين، وهو الاستمرار والبقاء.. مهما اختلفت المطامح والمطامع.

3 ـ إدراك قيمة الدولة: فالمصريون اعتادوا وجود الدولة في حياتهم.. منجزة كانت أو متوعكة. ولهذا فإنهم – حتى في أيام الغضب من سلطة خاصموها – لا يسمحون لشيء أن يفكك دولتهم، أو يفرط عِقدها.. الذي صنعته قرون متتابعة.

4 ـ القدرة على التسيير الذاتي: فرغم إدراك المصريين قيمة الدولة أو مكانتها، فإنهم لم يعدموا القدرة على تسيير حياتهم.. بعيدًا عنها. فحتى حين اعتمد بعضهم على الدولة – من خلال التسابق على الوظائف المتاحة.. في دواوين الحكومة – فإن الأغلبية منهم.. ظلت خارج الهياكل الرسمية، ولا سيما القوة الفلاحية والعمالية. كما أن الموظفين أنفسهم.. سرعان ما أصبحت رواتبهم عاجزة عن تحقيق الكفاية لهم، فاضطروا إلى البحث عن مصادر دخل أخرى.. في رحاب المجتمع. وتعتمد قوى كثيرة على عطاء المجتمع الأهلي – لا سيما بشقه الخيري – وتنشط النقابات، ويعلو صوت المؤسسات الدينية الكبرى، مثل: الأزهر والكنيسة، وينشأ دور لوجهاء الريف وأثرياء المدن، ويحدث نوع من الانتشار النسبي للقوة، ويدرك كثيرون أن هذه القوة، تعود إلى المجتمع نفسه؛ فيتمسكون به ويحافظون على تماسكه.

5 ـ نبذ الفوضى وكراهيتها: يفزع المصريون من الفوضى.. حتى لو صنعتها أيديهم في بعض الأحيان؛ فهم.. ما إن يدركوا أنَّ غضبهم قد تحول إلى هرج ومرج ساخن، يعقبه تخريب وتدمير، حتى يعودوا أدراجهم إلى التصرف بمسؤولية.. حيال بلدهم. ولدى المصريين القدرة على استشعار الخطر، والعمل على تفاديه، فهم طالما حازوا مَلَكة يقظ..ة حيال الأخطار التي تحدق ببلادهم، ولهم في هذا فهمهم الخاص بعيداً عن دعايات السلطة.

6 ـ الشعور بوحدة الهدف، وهذا يسري في أوصال الناس.. بلا ادعاء، ويستقر في العقل الجمعي.. بلا مواربة؛ إذ إن الأغلبية الكاسحة من المصريين.. لديهم اتجاه راسخ، بأن الحفاظ على المجتمع ضرورة، واستمراره عبر الزمن أشبه باعتقاد سياسي – أو هو كذلك بالفعل – يتم التعبير عنه بوضوح.. في أيام الأزمات والمشكلات.

7 ـ هناك دور تمارسه المؤسسات.. في صهر المجتمع، وتنشئة أفراده على التوافق وفهم التنوع. ويتيح هذا فرصة لأفراد.. مختلفين في الطبقات والثقافات والجهات والخلفيات الاجتماعية، لتحاور طوعي.. يوفر فرصة كبرى للثقافات الفرعية، لكي تصب في مجرى الثقافة الأصلية وتغذيها.

8 ـ تسهم النصوص – ولا سيما الدستور والقانون – في تحقيق هذا التماسك، ولا سيما من زاوية وحدة القوانين المطبقة في الدولة، وإتاحة حرية التنقل للمصريين، والسكن في أيٍّ من بقاع الوطن. وكل دعوة طرأت – من حين إلى آخر – أراد أصحابها الافتئات على هذا الحق، قاومها الناس.

إن هذه العوامل، هي استجابة قوية لتماسك المجتمع المصري. لكن هذا لا يعني أنها لا تواجه تحديات.. قد تخدشها أو تجرحها، أو تهز بعض أركانها، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر – الأوضاع الاقتصادية، وأوضاع المجتمع الأهلي المدني، وهبوب العولمة، التي تريد أن تكنس أمامها.. جدران الحماية الاجتماعية؛ من قيم متوارثة، وتاريخ متتابع، وتوافق الجماعة الوطنية.. على الأهداف العامة والغايات الكبرى.

نقلاً عن «المصري اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج