نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / أنيس منصور

أنيس منصور

زاهي حواس
زاهي حواس

عندما هلت علينا نسمات شهر رمضان المبارك، وجدتني أجيش بالذكريات مع أصدقائي الذين رحلوا عن عالمنا، عمر الشريف وأحمد رجب، وقد كتبت عنهما، واليوم أكتب عن فارس آخر، وهو أنيس منصور، أسأل الله لهم جميعاً الرحمة والمغفرة. وإذا كان الناس يفتقدون أعمالهم وعبقرياتهم في مجالات إبداعهم، فإنني أفتقد الصحبة الجميلة والشخصيات الفريدة التي لن تتكرر. وعزائي أنني سعدت، وأنا أصغرهم سناً، بصحبتهم والتعلم منهم.

سيظل أنيس منصور رمزاً مصرياً، وأحد صُناع الوجدان المصري الكبار. عرفته لأول مرة وأنا طالب دكتوراه بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت في زيارة لمصر وذهبت للقاء صديقي كمال الملاخ الذي دعاني للذهاب معه للغداء مع أنيس منصور في منزله بالحرانية! وعندما ظهر عليّ التردد لأن الدعوة لم تأتِ من أنيس منصور، أكد لي الملاخ أنها دعوة عامة في منزل أنيس منصور.

وبالفعل ذهبت مع الملاخ، وهناك قابلت العديد من الشخصيات العظيمة، على رأسهم العظيم توفيق الحكيم، والعديد من الكتاب والصحفيين الذين كان أنيس منصور يستعد بهم لإصدار مجلة أكتوبر. في ذلك الوقت كان جهاز الفيديو والكاسيت وكاميرات الفيديو غير معروفة وغير منتشرة، وكان أنيس منصور يمتلك واحداً، وداخل الغرفة كان توفيق الحكيم يجلس أمام التليفزيون، وهو لا يصدق أنه يمكن أن يشاهد نفسه بالبرنيطة الشهيرة والعصا في التليفزيون.. المتصل بكاميرا الفيديو، ولذلك بدأ يعبث بشاربه كي يصدق أن ما يشاهده حقيقي!

جمعتني بعد ذلك الصداقة بهذا الكاتب العظيم أنيس منصور الذي استطاع.. بقلمه، أن يجمع المصريين والعرب على عشق الحضارة الفرعونية؛ من خلال كتاباته وموضوعاته التي نُشرت بمجلة أكتوبر وغيرها من الصحف والمجلات، وجعل من الآثار – بمختلف موضوعاتها – محور الكتابة الصحفية، واهتم بالاكتشافات الأثرية، وكان الراحل العظيم يرحل بنا إلى الماضي البعيد والقريب لنشم عبق التاريخ، ونستمتع بغموض حضارة الفراعنة وآثارهم.. من حكايات عن لعنة الفراعنة ولعنة المومياوات وأسرار الأهرامات.

كانت مكالمتنا التليفونية تحمل طابع الدعابة، هاتفته ذات مرة بعد أن كتب مقالاً.. يؤيد فيه بقاء رأس الملكة نفرتيتى في متحف برلين.. بعد أن سرقها من مصر عالم الآثار الألماني لودفيج بورخارت عام 1913، وسألته مداعباً: هل زارتك نفرتيتي في المنام؟! ففوجئت به يقول لي إنه سقط على قدمه، وإنه لا يزال يتألم! فقلت له يبدو أن الملكة الجميلة قد صبت لعناتها عليك، لرفضك عودتها لمصر! وهنا ضحك بصوت مرتفع وقال لي: «يا راجل سيب آثارنا اللي في الخارج، فهم يهتمون بها أكثر منا».

سافرت مع أنيس منصور إلى العديد من بلاد العالم، وكانت صحبته جميلة ومسلية لأقصى درجة، وكنا نتجادل ونناقش العديد من الموضوعات، وكان أهم ما يبحث عنه وهو مسافر شراء كتاب جديد أو شراء أحلى وأجمل الملابس لزوجته السيدة الفاضلة رجاء، التي كانت حبه وحياته. وعندما كنت أتصل به لكي يستعد للسفر معي، كان يقول لي: «لازم تصريح من رجاء».

وقد اتفقت مع الصديق والناشر الكبير إبراهيم المعلم وصديقي عمرو بدر – الخبير السياحي – على عمل صالون باسم أنيس منصور، وكان إبراهيم المعلم هو الممول الأول لهذا الصالون، الذي كان يحضره العديد من الكتاب والعلماء. وكان يرغب في نشر ما كان يحدث من نقاشات وحوارات في هذا الصالون، الذي كان أنيس منصور يتحدث فيه، ويحكي ذكرياته مع الرئيس السادات، وعن دوره في السلام، وعن عشقه لمصر.

وقد حضرت مع أنيس منصور مراسم تأبين الراحل كمال الملاخ، وقال أنيس.. إن كمال كان يصحو من النوم في الفجر، ويظل يكتب حتى الصباح وهذه هي فترة الإبداع، وتحدّث عن كتبه وعلاقته بكمال الملاخ، وعن «المقالب» التي كانا يدبرانها في فترة الشباب. كان الملاخ يعمل مع أنيس في «أخبار اليوم»، وكان مولعاً بالفراعنة والآثار، وحدث أن قام أنيس منصور بالتحدث معه تليفونياً، مدعياً أنه خبير باليونسكو، وأنه يود أن يقابله في مينا هاوس، وذهب الملاخ إلى مينا هاوس وظل ثلاث ساعات ينتظر خبير اليونسكو المزعوم.

كان أنيس منصور – وبدون قصد – سبباً في أن أستقيل من العمل بالآثار لمدة عام كامل! فقد حدث أن كشفت عن مقابر العمال بناة الأهرام، وداخل إحدى هذه المقابر.. تم العثور على كوة بها خمسة تماثيل رائعة لشخص اسمه إنتي- شيدو، تمثله في مراحل عمرية مختلفة. وقد اتفق معي وزير الثقافة، فاروق حسني – في ذلك الوقت – على عدم الإعلان عن هذا الكشف.. حتى يمكن استغلاله أحسن استغلال، وأن يكون الإعلان في التوقيت المناسب.

وتصادف أن أقام إبراهيم المعلم حفل عشاء.. على شرف الكابتن صالح سليم، ودعا العديد من الشخصيات السياسية والثقافية والرياضية، وجلست إلى جوار أنيس منصور نتحدث عن الآثار، وعن الاكتشافات الحديثة، وقلت له سوف أخبرك عن كشف عظيم.. بعد أن تعدني بألا تنشر شيئاً عنه. وبالفعل وعدني أنيس منصور، وقصصت عليه قصة الكشف عن تماثيل إنتي- شيدو.

ومرت الأيام، وطلب مني الراحل العزيز محمد غنيم – رئيس العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة في ذلك الوقت – أن ألقي محاضرة للأجانب.. داخل مقر العلاقات الثقافية الخارجية، ودُعي لهذه المحاضرة أغلب السفراء الأجانب في مصر، ونشرت الصحف إعلان أنني سوف ألقي محاضرة أمام الدبلوماسيين الأجانب.. عن الاكتشافات الأثرية الحديثة، ولذلك اعتقد أنيس منصور أننا قمنا بالإعلان عن الاكتشافات الأثرية الحديثة، وعن تماثيل إنتي- شيدو، لذلك بدأ في كتابة سلسلة مقالات بعموده اليومي عن الاكتشافات الأثرية، وعن تماثيل إنتي- شيدو، ودعا الرئيس مبارك للحضور لزيارة هذا الكشف، خاصة أن السياحة في ذلك الوقت، كانت تعاني من مشاكل الإرهاب.

وفي ذلك الوقت دبت الغيرة في صدر المسؤول عن الآثار، ولم يكن له أي تاريخ يشفع له بتولي مسؤولية الآثار، ولذلك كان يطلب وزير الثقافة.. شاكياً مما يكتبه أنيس منصور، متهما إياي بأنني مصدر ما يكتبه في عموده اليومي!

وحدث أن جاء الرئيس مبارك – ومعه الرئيس القذافي – لزيارة منطقة الأهرامات وزيارة الكشف الجديد مثلما طالبه أنيس في مقالاته. وقال لي الوزير فاروق حسني إنه من الصعب على الرئيس أن يذهب إلى مقابر العمال، لأن الدخول للكشف عن طريق نزلة السمان، ولم تكن شوارع القرية مؤهلة لزيارة الرئيس، لذلك اتفق على أن يتم عرض التماثيل المكتشفة على منضدة بجوار تمثال أبوالهول. وكان هذا اليوم هو 7 يناير، إجازة أعياد الميلاد لإخواننا الأقباط، وكانت أمينة المخزن آمال صمويل في إجازة العيد، ولا يمكن فتح المخزن بدونها، لأن ما هو موجود بالمخزن من آثار.. هو عهدتها الشخصية. ولذلك أرسل رئيس مباحث الآثار سيارة وأحد المخبرين، لكي تحضر الدكتورة آمال صمويل لفتح المخزن. وأثناء الزيارة كنت أقوم بالشرح، وكان الرئيس القذافي يضحك، ويقول للرئيس مبارك إن من شيّد هذه الآثار هم السودانيون! وفي نهاية الزيارة وصلنا إلى أبوالهول ووجدت التماثيل المكتشفة حديثاً موجودة على منضدة، وبدأت أشرح التماثيل للرئيس، وقتها قلت مزحة جعلت الرئيسين يضحكان.

وبعد انصراف الزيارة، قامت الدكتورة آمال صمويل والمفتشون والمخبرون.. بنقل الآثار إلى المخزن مرة أخرى. بعدها فوجئت بالعقيد عزيز مقلد – في ذلك الوقت – يدخل إلى مكتبي، ليخبرني أن أحد التماثيل.. التي كانت معروضة في الزيارة تمت سرقته، وهو عبارة عن تمثال صغير جميل جداً ارتفاعه حوالى 7 سم. هنا وجدها رئيس الآثار فرصة للانتقام، فقام بإصدار قرار بجرد المخزن، وفي نفس الوقت قرار آخر بنقلي إلى منطقة آثار المطرية، وطبعاً تم ذلك بموافقة الوزير فاروق حسني.. نتيجة إصرار رئيس الآثار على نقلي، لأن الغيرة داخله كانت شديدة جداً. ولم أجد أمامي إزاء هذا الموقف إلا أن أكتب استقالتي من العمل بالآثار، كي أنجو بنفسي من هذه المؤامرة. بعدها عملت أستاذاً زائراً بجامعة لوس أنجلوس لمدة ستة أشهر. وقبل سفري.. اتصل بي أنيس منصور، ومشينا معاً على النيل، وقال لي إنه السبب في كل ما حدث لي.

وبعد عودتي من أمريكا، بدأت التدريس بالجامعة وتصادف أني كنت جالساً بأحد الفنادق، وجاء إليّ ضابط من المطار.. ليخبرني بأنهم كشفوا المؤامرة، وأن التمثال سرقه أثري ومخبر وهرب إلى ألمانيا، وبعد ذلك جاء رئيس آخر للآثار، وطلب منه الوزير فاروق حسني أن أعود إلى موقعي.. كمدير عام آثار الأهرام. بعدها اعتدت على التحدث مع أنيس منصور.. بعد نشر أي مقال عني أو عن عملي لأقول له: «ربنا يستر.. مش من لعنة الفراعنة، بل من لعنة عمود أنيس منصور».

كان أنيس منصور يقيم مأدبة إفطار في رمضان يدعو إليها كل أصدقائه. وقد تحدثت في برنامج تليفزيوني في رمضان عن أنيس منصور، وقلت إنني لم أحتفل مع أنيس منصور في ذلك العام بعيد ميلاده لأنني كنت مسافراً خارج البلاد، وقلت: أتمنى أن يعيش هذا العملاق ألف عام.. مثل أمنيات الفراعنة للأحباب، لكن طالبت بأن يكُف أنيس منصور عن المطالبة ببقاء آثار الفراعنة في متاحف أوروبا وأمريكا، وأنذرته مازحاً بعواقب لعنة الفراعنة.

وقد كتب أنيس منصور كتاباً عن لعنة الفراعنة، حدثنا فيه عن القصص المثيرة الشيقة وعن الحوادث التي تعرّض لها علماء الآثار.. وفُسرت على أنها لعنة الفراعنة، وقد حدث أن نشر في عموده مواقف عن ظهور مرض جلدي على جسد كمال الملاخ، وقال إن زاهي حواس يدخل المقابر المظلمة والسراديب والأنفاق، وإنه يخاف من لعنة الفراعنة التي حتماً ستصيبني! وكان ابني شريف يقرأ «الأهرام» يومياً، وفوجئت به يوقظني من النوم مبكراً ومعه جريدة الأهرام، وهو في غاية الانزعاج مما كتبه أنيس منصور.

تذكرت أول حادثة كانت لأنيس منصور وكمال الملاخ عام 1954، حيث كان الاثنان يتناولان طعام الغداء بأحد مطاعم القاهرة، وقتها اتصل رئيس الحفائر «الريس جرس يني».. بكمال الملاخ، ليبلغه عن الكشف عن مراكب خوفو. وكان الملاخ في ذلك الوقت هو الأثري والمهندس المسؤول عن إزالة الرمل والأحجار من جنوب هرم خوفو، وانطلق الملاخ – ومعه أنيس منصور – بعربة الأخير إلى الهرم، وفي منتصف الطريق انفجر موتور السيارة.

ومن أجمل القصص مع أنيس.. عندما ذهبنا إلى ڤيرونا في إيطاليا، ودخلت منزل روميو وچولييت، وكان أنيس يقف في البلكونة ويُمثل چولييت، وأنا تحت أُمثل روميو، وكان الحديث بيننا.. لو كُتِب، لأصبح فاصلاً فكاهياً في مسرحية هزلية. لا أنسى لحظة وداعه، ذهبت أنا وعمرو بدر إلى المستشفى، وجلس وهو لا يتكلم، لكن دموع الوداع في عينيه. كان أنيس منصور موسوعة متنقلة، وكان عظيماً بمعنى الكلمة، وسوف تظل كلماته محفورة في قلوب كل الناس.. أنيس منصور أسطورة الكتابة البسيطة عن أصعب الأشياء.

صديقي أنيس منصور، أفتقدك كما أفتقد عمر الشريف وأحمد رجب فرسان الثقافة والفن.

نقلاً عن «المصري اليوم»

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

مصطفى الفقي

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

نبيل عبدالفتاح

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة