نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / الاغتراب الإنساني في المتاهات الرقمية

الاغتراب الإنساني في المتاهات الرقمية

نبيل عبدالفتاح
نبيل عبدالفتاح

الثورة الرقمية، والذكاء الصناعي، وعالم الروبوتات.. الصاعد لتغيير العالم والإنسان – من خلال بحوث الشركات الكونية فائقة الثراء – ستُحدث تحولات نوعية، تؤدي إلى قطيعة كبرى في الوعي الاجتماعي والفردي في الدول الأكثر تطوراً، والأهم في العقل الإنساني. وتطرح أسئلة مغايرة لتلك التي صاغها العقل الفلسفي، والديني، والسياسي في مراحل الحداثة، وما بعدها، وفي ظل سيولة عالم المابعديات التي جعلت أسئلة حياتنا سائلة، وتستعيد بعضاً من اللغة الفلسفية، والسوسيولوجية، والدينية، والسياسية في طرح ذاتها مجدداً، أو الإجابات على مرحلة السيولة، والاضطراب المابعدي.

أسئلة من نمط جديد وفريد، تطرحها الثورة الرقمية والإناسة الروبوتية، لأن التطور المتلاحق في عالم الروبوتات.. سيؤدي إلى أسئلة روبوتية، وإجابات لها، يمكن أن تقطع مع ما هو إنساني مألوف إلى ما بعده!

من بين هذه الأسئلة.. أثر الثورة الرقمية والروبوتات على حالة الاستلاب والاغتراب الإنساني!

هذه الحالة الاغترابية السوسيو-نفسية، تشكلت تاريخياً في ظل علاقات العمل الرأسمالية، والطابع اللاإنساني لها.. في الإدراك والوعي الإنساني للعمال.

من الاغتراب في ظل علاقة الإنسان/ العامل في الأطر الرأسمالية.. على كون العامل لا يملك نتائج عمله؛ أي أنه يُستلب، لأنه يعامل على أنه شيء وأداة عمل، وليس معنياً على نحو شخصي.. بعمل أفلت منه نتاجه، وربحه.. وفق «ديديه جوليا» .

ازدادت بعض حالات الاغتراب الجماعي.. مع تطورات الثورة الصناعية الثانية، والثالثة، وخاصة مع ثورة الاستهلاك للسلع والخدمات، التي ساهمت في بروز مجتمع الاستعراض – وفق «جي ديبور» – وتراجع كل ما هو حقيقي لصالح التمثيل والاستعراض.

لا شك أن ذلك، أدى إلى هيمنة عالم الأشياء، والصورة، والتمثيل، والاستعراض، وإلى بعض حالات التشيؤ الإنساني.. الحامل للاستلاب. وبروز ظواهر الازدواجية.. بين ما هو حقيقي لصالح السلوك الاستعراضي حول الأشياء، والاستهلاك في عصر الصورة الزائفة.. بتعبير «بورستين». والإعلانات، وشركات العلاقات العامة. مع السيولة، وعالم المابعديات، ازدادت وتائر الاغتراب الإنساني، في ظل الاضطراب، وبعض الفوضى المحكومة في النظام الدولي.

امتد الاغتراب من علاقة الإنسان بالآلة، وعلاقات العمل، وعالم الأشياء، والاستهلاك المفرط – كنتاج للرأسمالية النيوليبرالية – إلى مجال الاغتراب السياسي، حيث حرّكت المصارف الكبرى، والشركات الكونية العملاقة الطبقات السياسية الحاكمة، وباتت تسيطر على الأفكار، والبرامج السياسية للأحزاب والسياسيين، والحكومات في شمال العالم الغربي ـ أوروبا وأمريكا الشمالية ـ على نحو أدى إلى فجوات بين الخطاب السياسي وبين جمهور مستهلكيه، وبين الفعل السياسي وبين الواقع المعيش، وهو ما ساهم في إنتاج أشكال من الرفض على الحياة الرقمية، والحياة الفعلية ، وشيوع حالة الاغتراب السياسي، في ظل أشكال الرقابة الرقمية في ظل جائحة كورونا، وما بعدها.

ازدادت حالات الاغتراب مع الرقمنة وحرياتها، والازدواجية بينها، وبين بعض الواقع الفعلي ومشكلاته. هذا النمط من الاغتراب السياسي يحمل معه حالة من بعض الاغتراب اللغوي، بين نسق اللغة السياسية.. الذي يستخدمه السياسيون ونخبة الإعلام المرئي، وبين مستهلكي السوق اللغوي والخطابي، وتناقضاته مع بعض ما يجري في الواقع الفعلي، والحياة اليومية، وبروز التضخم، والبطالة، ومشاكل النظام الصحي التي تظهر في عدم قدرته على استيعاب المرضى.

أدت الثورة الرقمية إلى شكل آخر من الاغتراب الرقمي، وتناقضاته مع الواقع الفعلي؛ حيث تحولت بعض من الجموع الرقمية الغفيرة.. إلى لغة الوعظ، والسخرية، والسطحية، والتفاهة، والاستثناءات محدودة. الأهم أن بعض الاغتراب الرقمي، يبدو في ثنايا استعراضات الصور، والفيديوهات القصيرة، والنظرة الومضة إلى المنشورات، والتغريدات، والصور… إلخ. كلها تشير إلى حالة من القلق، والتردد، والتوهان في فضاء من الأخبار الكاذبة والمعلومات غير الدقيقة، والازدواجيات بين الخطاب الرقمي، والحياة الفعلية، اغتراب رقمي مرجعه بعض من الهذيان حيناً، والانكشافات الرقمية للخصوصيات المحمولة على بعض التصنع، والتمثيل، والاستعراض، واللغو!

في عصر المعلومات الضخمة، كل الرغبات.. والميول التي تبث على الواقع الافتراضي، وتفاصيل التفضيلات للجماهير الرقمية الغفيرة تحت السيطرة، تباع وتشترى من قبَل الشركات الكونية الرقمية الكبرى إلى شركات أخرى، لكي تعيد تشكيل نشاطها، لتلبي هذا الطلب الغلاب.. من التفضيلات المختلفة، في كافة تفاصيل الحياة الرقمية والفعلية.. على نحو يساهم في المزيد من التشيؤ الإنساني المفرط، والاستهلاك الوحشي والاقتراض من البنوك.

في مرحلة الإناسة الربوتية، سيحدث تغير كبير في الحياة اليومية، وعلى رأسها دخول الروبوتات في عالم الإنتاج والعمل والوظائف، وسيؤدي ذلك إلى البطالة المتزايدة.. بالنظر إلى قيامها بأعمال جديدة، لا يستطيع ملايين العمال والموظفين القيام بها، ومن المتوقع.. أن 50 مليون موظف وعامل سيفقدون وظائفهم في 2030، ولا يمكن إعادة تأهيلهم لوظائف جديدة. حالة البطالة عن العمل، والاعتماد على نظم الضمان الاجتماعي، مما سيؤدي إلى حالة من الاغتراب، والأنامالية، وشيوع الإحساس باللا جدوى، والأخطر.. الفجوات الجيلية التي تتسع بين المواطنين، من بعض الأجيال الأكبر سناً، واللغة الرقمية والفعلية.. التي تتحدث بها الأجيال الشابة في المستقبل القريب في بعض مجتمعات الجنوب!

لا شك أن ذلك سيؤدي إلى تزايد حالة الاغتراب الفردي والجماعي.. في عالم الإناسة الروبوتية، الذي دخلنا إلى بداياته في سرعة مذهلة؛ كجزء من الرأسمالية الرقمية والروبوتية المتوحشة، بكل انعكاسات ذلك على الوجود الإنساني، وحياتنا على كوكب الأرض.

نقلاً عن «الأهرام».

عن لندن - تايمز أوف إيجبت

شاهد أيضاً

أحمد الجمال

«ومن الأوباش.. لص قصص»

«ومن الأوباش.. لص قصص»

جميل مطر

مع المعلم جورج

مع المعلم جورج