أخبار ذات صلة
في أحد مشاهد فيلم «أبو حلموس».. لنجيب الريحاني – وهو عمل تم إنتاجه عام 1947 – يجلس الموظف الجديد (شحاتة أفندي).. على مكتبه، بعد تعيينه موظفَ حساباتٍ.. بوقف دائرة «الأزمرلي باشا»، ليطالع العجب العجاب.. في الدفاتر والحسابات.
ففي المشهد، يتنافس البؤس.. الظاهر على وجه شحاتة أفندي، مع الشعور بسذاجة ذلك اللص.. الذي دون أرقاماً خرافية؛ بحسابات تلك الأيام.
وحين يأتي ناظر الوقف.. (عباس فارس)، يتحدث إليه الموظف الجديد.. (نجيب الريحاني)؛ الذي لم يكن – حتى ذلك الوقت – يعرف أن ذلك البيك.. أبو بدلة فخمة، هو كبير اللصوص!
… فيخبره بأن المسؤول عن هذه الحسابات.. إنما هو لص مغفل!
في صبر يحسد عليه، يسأل اللص – أقصد ناظر الدائرة – عن الطريقة المثلى.. لتسجيل هذه الحسابات، لتبدو منطقية.
وهنا يبدأ شحاتة أفندي في إعطاء ناظر العزبة.. الوصفة السحرية للضحك على الناس.
ودون الدخول في تفاصيل، تعتمد طريقة شحاتة أفندي.. على إلهاء الناس بالكثير من التفاصيل.. غير الضرورية، حتى ينشغلوا بها.. عن الهدف الرئيسي. فضلا عن أن الكثير من التفاصيل، تمنح الناس شعورا بأنها.. حتما تعني شيئا مهما؛ حتى وإن لم تكن صحيحة، أو حتى لو كانوا هم أنفسهم.. لا يستوعبون معناها.
استحضرت هذا المشهد المضحك، وأنا أتابع مشهدا واقعيا.. لكنه أبدا ليس مضحكا، بل تسيل له الدموع.. كمياه الصرف في شوارع المحروسة مع حلول كل شتاء، إن لم يحدث كسر أو افجار في إحدى مواسير شبكة الصرف.. في الفصول الأخرى من السنة.
فبينما الدولار يواصل قفزاته، وبينما أسعار السلع والخدمات تتسابق، وبينما الدائرة تضيق.. حول عنق رب الأسرة، تشتعل حروب من الماضي؛ تنبري فيها وسائل الإعلام.. لمناقشة «سطحية» أحمد خالد توفيق، و«ظلامية» الشيخ الشعراوي، و«ديكتاتورية» جمال عبد الناصر!
وهنا يحضرني صوت شويكار.. وهي تقول: «شيء لا يسدكه عكل».
نعم، بعيدا عن حقيقة تفسيرات الشعراوي، وكتابات خالد توفيق، وسياسة عبدالناصر..
ما علاقة كل ذلك، بما يعانيه رب أسرة.. يعمل في أكثر من وظيفة، ليحصل – بالكاد – على ما يمكنه من إطعام صغاره. ومع لك لا يمكنه شراء طبق بيض؟
ما علاقة ذلك، بسيدة ترملت في عز شبابها.. فراحت تخدم في البيوت، من أجل تربية أبنائها.. لكن ما تحصل عليه، لا يكفي شهرية المدرس الخصوصي؟
ما علاقة ذلك بمريض، لا يجد ثمن الدواء.. بل لا يجد الدواء نفسه؟
ما علاقة ذلك.. بكذا، وكيت، وكيت؟
أيها الإخوة المواطنون..
في البدء، كان الإعلام هو ضمير الأمة، قبل أن يتحول إلى «ضمير الغائب». كان لسان حال الشعب، قبل أن يتحول إلى «لسان المزمار»، الذي يزغرد.. برفقة صوت «الطبلة»، الذي لا صوت يعلو عليه.
دقق جيدا، ستكتشف أن «شحاتة أفندي» لم يمت، بل أنجب لنا.. ألف شحاتة وشحاتة، لا هم لهم.. سوى إنتاج الكثير من التفاصيل التافهة، وإلقائها على قارعة الطريق.. ليلتقطها بعض المارة، ويلوكونها في أفواههم؛ لعلها تنسيهم مرارة الواقع، الذين هم فيه غارقون.. حتى آذانهم.
