نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / اخبار السلايدر / مراجعات في فقه العلاقات الدولية

مراجعات في فقه العلاقات الدولية

محمد عبدالشفيع عيسى 

محمد عبدالشفيع عيسى

 

توحي إلينا التطورات الأخيرة.. في العلاقات بين الدول – على المستوى الإقليمي.. و«الأقاليمي».. والعالمي – بأفكار شتّى متناثرة، تتأرجح يمنَة ويسرة.. لا تستقر على قرار مكين. لكن جوهرها في حاجة ملّحة.. إلى مراجعة ما هو متواتر في أدبيات السياسة الدولية منذ سنين، وخاصة في حقبة «ما بعد الحرب العالمية الثانية»، ليس فقط على امتداد ما يسمى بمرحلة ما بعد الحرب post war era، ولكن على الامتداد الأشدّ طولاً.. حتى الآن.

في ضوء ما نراه بأمهات عيوننا هذه الأيام – على الصعيد العربي ومناطق الجوار – أمرٌ يشي بالعجب العجاب، من العجز المُزْرِي.. لما يسمونه «المجتمع الدولي!» إزاء أزمات ليست بمستعصية.. في حد ذاتها؛ ابتداءً من أزمة «السدّ الإثيوبي»، إلى العجز عن معالجة جراح مفتوحة – أمام الناظر إليها من كل باب – كما هو الحال في العراق وسوريا، واليمن وليبيا، وكذلك لبنان.. إلى غير ذلك. ولا نذكر «أم الأزمات المستعصية»، أي القضية الفلسطينية.. التي أعْيَت من يحاول الاقتراب من أي مدخل (معقول).. بل و(واقعى) – ولا نقول «حقّاني» – لمأساة الشعب الفلسطيني البطل، في مقاومته منذ سبعين عاماً ويزيد، لتداعيات مشروع من مشاريع «العصور الوسطى»، من أجل إقامة كيان سياسي مستحدث.. على أنقاض كيان سياسي قائم وعريق، بدعوى «الدولة القومية للشعب اليهودي»..! 

وبدلاً من محاولة الحل، تجري محاولات لتعميق المشكلة الفلسطينية.. هنا وهناك، حتى بين ظهراني الوطن العربي الكبير؛ تحت «لافتات» مختلفة، ودون وجل..! 

هذه «مأساة العصر» – كما قال البعض منا – وإنْ لم توجد لها أشباه ونظائر في عالمنا وعصرنا، فإن أوجه شبه قائمة بين «المأساة الأم».. ومآسٍ غيرها، أصبحت عابرة للزمن.. على عقود على الأقل، كما في حالة «الصومال» الجريح.


***

إزاء هذا كله، يتحدث خبراء العلاقات الدولية – بكلمات منمقة (علمياً) – حول ما يسمى أحياناً «النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية»..! ويقولون إن هناك من هذه النظريات ما يسمّى – على سبيل المثال – بالمدرسة «المثالية»؛ بمعنى أن العلاقات بين الأمم.. تقوم – أو يجب أن تقوم – على المبادئ والمُثل العليا.. الموجِّهة للسياسات الخارجية، ويستدلون على ذلك، بما يدعو إليه أصحاب «الاتجاه الليبرالي».. في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، حول مثاليات السياسة الخارجية.. في أمريكا وأوروبا، انطلاقاً من (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) و(منع الإبادة البشرية). 

مثال ذلك، بعض ما جرى مؤخراً.. بمناسبة الأحداث المصاحبة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021. ومثال ذلك أيضاً، ما جرى من قبل – في أوائل وأواسط التسعينيات المنصرمة – حين تم تدخل (حلف الأطلنطي) في حروب البلقان، وخاصة في «يوغوسلافيا السابقة» – وبصفة أخص في البوسنة وصربيا وكوسوفو – تحت مسمّى «التدخل الإنساني». وما هي إلا تصرفات انتقائية الطابع، يحكمها المنطق العاري للمصلحة.. بمعناها الضيق، للتحالف الغربي وأعضائه على اختلافهم.

وقُل مثل ذلك أيضاً ،عن الذي جرى بمناسبة الغزو الأمريكي للعراق، واحتلاله عام 2003. ثم ما جرى من تدخلات القوى الغربية الكبرى، وبعض القوى العربية (الصغرى والمتوسطة.. بالمعايير الإقليمية) في كل من سوريا وليبيا، بعد أحداث 2011. لذلك يَحاجّ فريق مقابل.. من خبراء العلاقات الدولية، بأن مثل هذه التصرفات، لا تستند إلى المدخل المثالي، ولكن إلى المُقتَرب (الواقعي)، معرَّفاً باعتباره «المصلحة القومية»، وأن هذا ما قال به (مورجنثاو) – منذ أربعينيات القرن المنصرم – في كتابه المعروف (السياسة بين الأمم).

وآخرون يقولون بالمدخل (الاستراتيجي)؛ حيث استراتيجية المنافسة، والتنافس، والتنافسية، والقدرة التنافسية للأمم (مايكل بورتر). وآخرون يتحدثون عن «المدخل السوسيولوجي» للعلاقات الدولية، حيث تكمن أهمية الأبعاد الاجتماعية-الثقافية للعلاقات بين الدول، وبين «الفاعلين من غير الدول»؛ مثل الجماعات العشائرية، والقبلية، والقروية، وذات الطابع الديني، أو القائمة على التنوعات الثقافية… إلخ.
وآخرون يتكلمون عن مداخل نظرية.. ليست بنظريات في حقيقتها، ولكنها أقرب إلى أن تكون بمثابة «مقتربات للبحث»؛ مثل «معالجة الصراعات الدولية»، و«تسوية النزاعات». كما يحاول بحّاثة كُثُر – في الفترات الأخيرة – التركيز على ما يسمى «ما بعد» Post مثل «ما بعد السلوكية» و«ما بعد الاقتصاد السياسي«.

كل هذا الضباب الكثيف من (النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية) ربما يؤدي وظيفة «التعتيم».. على كثافة العلاقات الحقيقية في عالمنا وعصرنا. تلك العلاقات، لا تقوم على مبادئ ومُثل عليا.. منتزعة من سياقها، أو مجرد مصالح «مُعممة»، أو اجتماعيات وثقافيات متنوعة، أو استراتيجيات جزئية وقطاعية.
وكما تحدّث سمير أمين.. عن «علاقات الاستغلال الطبقي» المعتمة.. في النظام الرأسمالي الحديث، مقارنة بالعلاقات تلك.. «الشفّافة» في العصور القديمة والوسطى، فكذلك يمكن لنا – على سبيل التناظر – أن نتحدث عن العلاقات الدولية المعتمة.. في عصرنا الراهن، مقارنة بالعلاقات الدولية «الشفافة» في عصور خلت (كالعصور الوسطى)، حين كان الاستعمار («الاستخراب» بتعبير لغوي أدقّ) هو النهج السائد في العلاقات بين الكيانات القوية في العالم.. والكيانات الضعيفة والأقل قوة. وكذلك كان الحال في العصور القديمة «قبل الاستعمار»، وإن شئت فقل: قبل الرأسمالية؛ فالاستعمار قرين الرأسمالية على كل حال.
وما العتمة المظلمة للعلاقات الدولية الراهنة، إلا نتيجة لكثافة المبادلات الاقتصادية.. والاجتماعية.. والعسكرية.. والثقافية، التي يديرها المركز الرأسمالي المعاصر – في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية خاصة – وتكمن من وراء جبالها الثقيلة.. أشباح الاستغلال والمظالم، على المستويين العالمي وما دون العالمي.

فلنقُمْ إذن بإزالة العتمة.. عن طريق استنطاق الشفافية؛ من خلال نزع الأقنعة، وتعرية الأقانيم، عبر البحث العلمي الصحيح.


***

 

نقطة أخرى، تتصل اتصالاً وثيقاً بما سبق. إن عصر «اللا تكافؤ» – المُعْتِم المعمّم – في العلاقات الدولية، يَسِمُ بمَيْسِمه جميع العلاقات بين الدول والأمم، حتى تلك العلاقات.. التي تديرها دول وأمم غير رأسمالية في الجوهر؛ مثل الصين وروسيا حالياً.. فهاتان الدولتان لا تفعلان – وربما ليس في مكنتهما أن تفعلا، إلى حدّ معيّن – سوى الامتثال لقواعد «السوق الرأسمالية العالمية»، أي «تجارة المصالح مع الدول الأخرى».. بدرجات مختلفة ومتفاوتة نعم.

قد تقوم هاتان الدولتان مثلاً – الصين وروسيا – بانتهاج سياسات.. «أفضل» من دول العالم الرأسمالي المركزي، حيث قد تقترب من لغة «تبادل المصالح» و«تقاسم المنافع».. في أبعاد وأعماق أكثر اتصالاً ببعض احتياجات الدول (النامية)؛ خاصة في الإمداد بالحاجات الأساسية، وإقامة قواعد صناعية وتكنولوجية «عميقة«.

قد يحدث ذلك، ولكن ليس معناه أن هاتين الدولتين – الصين وروسيا كمثال – تديران سياساتهما الخارجية.. منفّكة تماماً من الأسس الانقسامية-الصراعية للنظام العالمي الحاضر. لذلك، لا يغرنّك حديث معسول – يديره فريق من باحثي العلاقات الدولية – حول تحوّل متوقع أو منتظر.. في الأسس الناظمة للعلاقات الدولية: انتقالاً من الوضع الحالي؛ حيث هيمنة «القوة العظمى الوحيدة»، إلى وضع مستقبلي.. على أساس «تعددية المراكز» Centrism  Poly، أو على أساس «اللاقطبية»  None Polarity .

إن مثل ذلك التحول – وإن أدّى بالإمكان إلى تحسينات جزئية متفرقة هنا وهناك في أداء المنتَظم الدوليّ – فإنه لن يمكن أن يفيد حقاً في إصلاح جذري.. لأحوال البشرية المعذبة، إن لم يرافقه إصلاح الحال على مستوى «التكوين الاقتصادي-الاجتماعي» بالذات.

بعبارة أخرى، إنه طالما استمرت هيمنة الرأسمالية المركزية العالمية.. بصورتها الحالية – أو (المحسّنة جزئياً) – فلن يحدث الإصلاح الجذري المنشود.. في هياكل ومسارات العلاقات الدولية. 

لا يعني ذلك أن إقامة منظومة عالمية كاملة.. خارج الرأسمالية، وبعيداً عن أنماط العلاقات الاستغلالية عموماً (علاقات الهيمنة) تقع في متناول اليدين، أو في الأفق المنظور. إنما تلك مهمة تاريخية بالغة التعقيد.. قد تأخذ عشرات كثيرة من السنين، بل وقال البعض: مائة سنة أو مائتان، إن توافرت المقومات الكفيلة بتحقيق «التحول-الحلم» المنتَظر.. ولكنه السعي الدؤوب لتغيير وجهة العالم، صوب كون أكثر إنسانية حقاً، على صعيد العلاقات بين البشر.. في كل جماعة ومجتمع، بما يعكس فرقاً جوهرياً – ربما – في (تكوين) وفي أداء (الإنسان)، وعلاقته بأخيه الإنسان. ومن ثم يحدث الفرق في نمط العلاقات بين أولئك البشر، وبين الطبيعة المتحجرة الصمّاء، التي لا تنطق. 

ولو نطقت تلك الطبيعة لقالت: هوْناً علينا.

إن التغير البيئي والمناخي والمجتمعي الجاري، من جرّاء ظلم الإنسان لمحيطه الطبيعي-الاجتماعي، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. من قبل، لهُو كفيلٌ – لا قدّر الله – بإمكان زوال هذا الكون كله.. قسْراً، عمّا قريب..!

فهل يعتبرون..؟

 

* أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية.

نقلاً عن «الشروق».

 

شاهد أيضاً

فلسطينيون يقتادون اسرائيليا في خان يونس بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (أ ف ب)

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على مواقع يمكن أن تكون أهدافا للقصف الجوي الإسرائيلي على القطاع.

السفير شريف كامل واللواء المشرفي وقرينتاهما أثناء عزف السلام الوطني. (تايمز أوف إيجيبت)

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في حرب أكتوبر المجيدة.