نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / اخبار السلايدر / حلم دولة جديدة.. وجمهورية ثانية

حلم دولة جديدة.. وجمهورية ثانية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

مصطفى كامل السيد

دعا الرئيس السيسي – يوم الثلاثاء 9 مارس الجاري، في مناسبة الندوة التثقيفية للقوات المسلحة – إلى اعتبار الانتقال إلى العاصمة الإدارية.. بمثابة الإيذان بمولد دولة جديدة، وجمهورية ثانية، وحثَّ المفكرين والخبراء.. على الاهتمام بهذا الأمر، والمشاركة في توضيح معالم هذه النقلة.. في تاريخ مصر. واستجابة لهذه الدعوة، أطرح بعض الأفكار.. حول ما ينبغي أن يعنيه مثل هذا الانتقال.

معنى الانتقال

بداهة.. لا يمكن تصوُّر أن مجرد الانتقال إلى عاصمة إدارية، يعني – بالضرورة – تغييراً في طبيعة الدولة.. أو في نظام الحكم فيها. التجارب المعاصرة تنفي ذلك. 

انتقلت البرازيل من ريو دي جانيرو إلى برازيليا.. وانتقلت نيجيريا من لاجوس إلى أبوجا.. وانتقلت باكستان من كراتشي إلى إسلام أباد، ولم يقترن ذلك لا بتغير في طبيعة الدولة، ولا في نظام الحكم في أي منهما. 

الذي استوحى فكرة العاصمة الجديدة في البرازيل، كان رئيساً منتخباً ديمقراطياً، واجتهد المعماريون ومخططو المدن البرازيليون.. في تصوُّر شكل العاصمة الجديدة، وعرفت البرازيل – مع الانتقال إلى برازيليا – حكماً عسكرياً في 1964؛ أطاح بكل الحريات.. والحقوق السياسية والمدنية للبرازيليين، حتى سقط تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية.. بعد أكثر من عقدين من الزمن في 1985. 

ولم يستقر نمط نظام الحكم المتقلب.. بين سيطرة العسكريين وفترات من الحكم المدني – في أي من نيجيريا أو باكستان – مع الانتقال إلى عاصمة جديدة. 

لذلك، فإن الفهم الصحيح.. لأي حديث عن دولة جديدة وجمهورية ثانية، هو الذي يستبعد هذا التصور؛ بأن الانتقال إلى عاصمة جديدة.. هو دليل على تغير فيهما، ويسعى لاكتشاف – أو تخيل.. أو تمني – كيف ينبغي أن يكون عليه هذا الاختلاف.. بين الماضي والحاضر.

المقارنة.. هي طريق لمعرفة هذا الاختلاف. 

فما هي طبيعة الدولة القديمة؟ وما هي سمات الجمهورية الثانية؟ 

الإجابة عن هذين السؤالين.. هي التي تتيح لنا استكشاف ما يمكن أن نؤَمِّله – أو على الأقل ما يرجوه كاتب هذه السطور – أن يكون معالم الجديد في هذا الانتقال. 

من المؤكد.. أن التحولات الكبرى – التي عرفتها بعض المجتمعات المعاصرة، وانبثقت فيها دول جديدة ونظم حكم مختلفة – لم تقترن إطلاقاً.. بالتضحية بكل ما هو قديم. بكل تأكيد لا في المباني، ولا كذلك في بعض تقاليد الحكم. 

هل من شك.. أن الدولة التي انبثقت في فرنسا – بعد ثورتها الكبرى في 1789 – تختلف في تكوينها الطبقي ونخبتها السياسية.. عما عرفته فرنسا الملكية؛ التي تقاسمت فيها الأسرة المالكة السلطة.. مع كل من الكنيسة والنبلاء الإقطاعيين؟ لكن فرنسا الجديدة – هذه – ظلت تحكم من نفس العاصمة.. باريس، وتفرض حظراً على إقامة مبانٍ جديدة فيها، بل وتفخر بالتراث المعماري والفني والأدبي لفرنسا الملكية. وهي مازالت تعتز بقصر فرساي – مقر ملوكها السابقين – وتعبئ كل الجهود.. لإعادة تشييد بروج كنيسة مادلين العريقة. 

ويمكن ضرب أمثلة أخرى.. من مجتمعات، عرفت تحولات ثورية في روسيا والصين.. وغيرهما، ولم يقترن ذلك.. لا بالانتقال إلى عاصمة جديدة، ولا بالتنكر لكل تراث الماضي.

هل ستنبثق دولة جديدة في مصر؟

مصر.. هي من أقدم – إن لم تكن أقدم – دولة في العالم؛ ليس فقط بحدودها.. واستمرارية السلطة المركزية فيها، ولكن – أساساً – بعلاقة دولتها.. بمجتمعها، هذه العلاقة.. التي يشهد بها كل من درس طبيعة الدولة في مصر، من جمال حمدان وأحمد صادق سعد إلى سمير أمين ونزيه الأيوبي. 

الدولة في مصر.. تعلو فوق مجتمعها؛ إما بعلاقة هيمنة، عندما يقبل هذا المجتمع.. وجودها الفوقي، لأن من يحكمها ويملك أراضيها.. هو تجسيد لحورس؛ ابن الإله أوزيريس.. الذي – من دموع أمه إيزيس – يرتفع الفيضان.. ليمنح الخصوبة لأراضيها المعطاءة. أو لأنه المشرف على ضبط النهر، مصدر الحياة في هذا الوادي والدلتا اللذين تحيط بهما الصحراء شرقاً وغرباً. أو هي علاقة سيطرة، يرضخ فيها المجتمع صاغراً.. لمن يفرض عليه السُّخرة والضريبة، ولا يملك مقاومة تجاهه.. إلا بالهرب إلى الصحراء، كما تكشف كتابات تاريخ التمرد في ريف مصر.

هذه هي طبيعة الدولة في مصر.. على مر العصور، لم تختلف.. لا في عصر الفراعنة، ولا الرومان، ولا منذ الفتح الإسلامي حتى الدولة العثمانية، لا في عهد محمد علي، ولا في ظل الاحتلال. ربما تحولت السيطرة إلى هيمنة.. لفترة قصيرة في عهد عبدالناصر، ولكنها عادت سيرتها الأولى.. منذ سبعينيات القرن الماضي. 

تحوُّل هذه العلاقة.. من السيطرة.. إلى التوازن بين الدولة والمجتمع، لا يعني إضعاف الدولة؛ فالدولة القوية – كما تقول كتب علماء السياسة – هي الدولة التي تتخذ قراراتها.. بناء على تفضيلاتها، ولكنها تحظى – في نفس الوقت- برضاء المجتمع. 

وفضلاً على ذلك، فالانتقال إلى علاقات متوازنة بينهما في مصر.. أصبح ضرورياً؛ لأن قسماً كبيراً من هذا المجتمع، لم يعد معتمداً على الدولة.. في كسب قوته – كما كان الحال سابقاً – العاملون في أجهزة الدولة، مع الفلاحين، يمثلون أقل من نصف القوة العاملة في مصر. نسبة كبيرة من المصريين، تعتمد على دخول أقاربهم العاملين بالخارج، والذين تمثل تحويلاتهم أكبر مصدر للعملة الأجنبية في مصر، تفوق ما تحصل عليه الدولة من كل مصادر النقد الأجنبي الأخرى.. التي تقع تحت سيطرتها، حتى عندما تضاف إليها دخول قطاع السياحة. 

الطبقة الوسطى في مصر، تعتمد على المدارس والجامعات الخاصة.. في تعليم أبنائها، بل وكل العائلات المصرية، تعتمد على الدروس الخصوصية.. أكثر مما تعتمد على مدارس الحكومة، رغم كل جهود وزير التعليم. والصحف، والقنوات التلفزيونية، والمحطات الإذاعية الحكومية – أو التي تسيطر عليها أجهزة الدولة – لا تجد من يقرأها، أو يشهدها، أو يسمعها. 

ولا يبدو – حتى الآن – أن أجهزة الدولة في مصر قد أفاقت.. على مثل هذا التطور الجذري. فهي ما زالت تتعامل مع المواطنين.. كما لو كانوا أطفالاً بحاجة للتوجيه، ثم تفاجأ بثورتهم.. عندما تضيّق عليهم في شؤون حياتهم. 

الحكمة الشعبية تقول «إن كِبِر ابنك خاويه». مؤاخاة الدولة للمجتمع.. تعني رفع أجهزة الحكومة وصايتها عن المجتمع المدني، وأن تترك للمواطنين الحرية.. في تنظيم شؤون حياتهم، وأن تتشاور مع منظماتهم.. عندما يتعلق الأمر بسياساتها، وكيفية تنفيذها لهذه السياسات.

ماذا تعني جمهورية ثانية؟

ترقيم الجمهوريات.. هو تقليد فرنسي معروف. ولا يقترن الرقم في فرنسا.. بعدد من تولوا الحكم في ظل أي جمهورية. 

الجمهورية الأولى.. أعقبت الثورة الفرنسية الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر  (1792ــ1804)، وتلاها حكم إمبراطوري. 

والجمهورية الثانية.. جاءت بعد ثورة 1848، ولم تدم سوى أربع سنوات، وتحولت إلى حكم إمبراطوري تحت نابليون الثالث. 

والجمهورية الثالثة – وهي الأطول عمراً – أعقبت هزيمة فرنسا في الحرب البروسية الفرنسية 1870، واستمرت حتى سقوط فرنسا تحت الاحتلال النازي (1870ــ1940). 

وأُعلنت الجمهورية الرابعة.. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1946. 

والجمهورية الخامسة.. هي التي اقترنت بعودة ديجول رئيساً في 1958، وما زالت قائمة حتى الآن. 

كل من هذه الجمهوريات، كان لها دستورها ونظام الحكم اللصيق بها. الجمهوريتان الثالثة والرابعة.. أقامتا في فرنسا حكماً برلمانياً، لم يتسم بالاستقرار. 

وجاءت الجمهورية الخامسة.. بحكم رئاسي برلماني، يوسع من سلطات الرئيس، ويضيّق كثيراً من سلطات البرلمان ذي المجلسين.. ومن سلطات رئيس الوزراء. ولكن رئيس الوزراء، مسؤول أمام كل من رئيس الجمهورية والبرلمان.. في ذات الوقت.

الحديث عن جمهورية ثانية في مصر، ليس له معنى.. إلا إذا اقترن بتغيير في نظام الحكم. 

وفي الحقيقة، فإن نظام الحكم في العهد الجمهوري في مصر، حافظ على نفس السمات، من طغيان السلطة التنفيذية.. على غيرها من سلطات الدولة، ومن تركيز هائل للسلطات في يد رئيس الجمهورية، يستوي في ذلك الرئيس جمال عبدالناصر.. وكل من خلفوه. وعلى الرغم من تعدد الدساتير في العهد الجمهوري – منذ 1956 حتى سنة 2014، وبتعديلات 2017 – لم يختلف الأمر.. من هذه الناحية.

ولكن قبل البحث في البدائل، ينبغي التأكيد على الطابع الجمهوري لنظام الحكم. 

الجمهورية نظام حكم.. لا يقترن بتأبيد الحكم لشخص واحد، على عكس ما انتهى إليه الحال.. في النظم الجمهورية في الوطن العربي؛ فكل من تولى سلطة الرئيس – في معظم الجمهوريات العربية – تطلَّع إلى بقائه في منصبه.. حتى يوافيه الأجل؛ ومن ثم سقط القيد على تحديد تولي الرئاسة والترشح لها.. بمدتين على الأكثر، وهو ما لم يكن موجوداً في مصر في دستور 1956. وأسقط الرئيس السادات مثل هذا النص في دستور 1971؛ بتعديلات 1980. وتكرر هذا النص في دستور 2014، وألغته عملياً تعديلات 2017.

إذا ما سادت القناعة.. بأن تولي رئاسة الجمهورية هو لفترة محددة بمدتين – لا تتجاوزان ربما ست سنوات لكل منهما – يمكن بعد ذلك، بحث أوجه الاختلاف القائمة بين الجمهورية الأولى – الممتدة حتى الآن – وجمهورية ثانية.. نحلم بقيامها في مصر. 

الجمهورية الأولى، اقترنت بغياب الحريات السياسية. حتى الحرية الشخصية – التي تسبق كل الحريات – كانت موضع انتهاك كبير.. طوال العهد الجمهوري؛ بآلاف من المواطنين يلقون في السجون.. لشكوك في انتمائهم إلى منظمات سياسية.. غير مسموح بوجودها طوال فترة حكم جمال عبدالناصر، أو مشكوك في ولائهم.. في ظل كل الحكومات التالية. والقيود تعددت على حريات التعبير والتنظيم؛ سواء لمنظمات المجتمع المدني.. أو الأحزاب السياسية. كما أن إجراء انتخابات حرة ونزيهة.. ومفتوحة للجميع بدون استثناء، كان تحدياً.. أخفقت كل الحكومات – التي عرفتها مصر – في الوفاء به، باستثناء فترة ثورة يناير من مارس 2011 حتى يونيو 2012 وفي ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة. 

ليس هناك ما يدعو للاستفاضة في هذه المسألة، ولكن.. بدون إصلاح سياسي حقيقي؛ يؤدي إلى تمكن المواطنين من ممارسة جميع حقوقهم المدنية والسياسية.. على قدم المساواة، سوف تستمر كل سمات الجمهورية الأولى، بل.. وبالتراجع عن القدر المحدود من حريات التعبير والتنظيم، الذي ساد لفترة قصيرة.. في السنوات الأخيرة لحسني مبارك.

الحلم والواقع

الانتقال إلى دولة جديدة.. وجمهورية ثانية.. هو حلم كبير. 

جيل المصريين الذي يمكن أن يشهد تحققه، سوف يكون جيلاً سعيداً.. بكل تأكيد.

 

 

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

 

نقلا عن «الشروق».

 

شاهد أيضاً

فلسطينيون يقتادون اسرائيليا في خان يونس بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (أ ف ب)

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على مواقع يمكن أن تكون أهدافا للقصف الجوي الإسرائيلي على القطاع.

السفير شريف كامل واللواء المشرفي وقرينتاهما أثناء عزف السلام الوطني. (تايمز أوف إيجيبت)

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في حرب أكتوبر المجيدة.