نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / مقالات / درس في دبلوماسية المواجهة: طهران 4 – وشنطن ولندن صفر

درس في دبلوماسية المواجهة: طهران 4 – وشنطن ولندن صفر

عبدالله حموده
عبدالله حموده

عبدالله حموده

في ظروف صدور قرار محكمة جبل طارق، بإطلاق الناقلة الإيرانية “جريس-1” المحتجزة في ميناء المحمية البريطانية، صدر تصريح وزارة الخارجية البريطانية؛ طالبت فيه لندن طهران بأن تلتزم بتعهداتها.. بمعنى ألا تذهب حمولة الناقلة من النفط الإيراني إلى سورية. وفي طهران، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية، أن طهران لم تقدم تعهدا بهذا الشأن. وأوضح المتحدث باسم الوزارة عباس موسوي، أن الناقلة – اعتبارا من وقت مغادرتها ميناء جبل طارق – سترفع علم إيران، بدلا من علم بنما، وستغير اسمها ليصبح “إيران داريا”. تصدت لحسم هذا الجدل تقارير إعلامية، بقولها أنّ قبطان الناقلة وقع على تعهد لسلطات جبل طارق، بعدم الذهاب إلى موانئ سورية.

وصاحب صدور قرار محكمة جبل طارق، تصريحا من رئيس وزراء المحمية البريطانية فابيان بيكاردو، بأنه من حق الناقلة الإبحار في أي وقت، رغم تلقي محكمة جبل طارق طلبا أمريكيا – في اللحظات الأخيرة – بوقف إجراءات إطلاق سراح الناقلة. وقال بيكاردو أن السلطات القضائية في بلده، ستبحث هذا الطلب في وقت لاحق.

بدا الأمر وكأن الولايات المتحدة الأمريكية منيت بهزيمة سياسية – إضافة إلى مصداقية تقديراتها الأمنية؛ المعطوبة بأغراض تفقدها الموضوعية – وأنها ورطت حليفتها المقربة بريطانيا، في مهانة يصعب التعافي من أثارها، استغلالا لتهافت لندن على التقرب من واشنطن، في ظروف مغادرتها الاتحاد الأوروبي في عجلة، وحاجتها إلى حاضنة على الضفة الغربية للمحيط الأطلنطي، تستعيد بها – حتى وهما – صفة “العالمية”، بعد فقدان امبراطوريتها.. التي لم تكن تغيب عنها الشمس.

***

كانت بريطانيا أول من تجاوب مع الطلب الأمريكي، لتشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة البحرية في مضيق هرمز، خروجا على الإجماع الأوروبي الرافض للتعدي الأمريكي غير المسبوق؛ متمثلا في مبادرة كل من ألمانيا وفرنسا بالتباعد عن الدفع الأمريكي لفرض حصار بحري على إيران، وتوقيف ناقلات نفطها حيثما كان.

غير أن بريطانيا رأت أن محمية (مستعمرة) جبل طارق – التابعة لها – وتطل على المضيق الذي يربط البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، “كمينا” مناسبا.. يسهل توقيف أي ناقلات إيرانية فيه، لاختبار رد فعل طهران عن بعد. غير أنه بدا أن بريطانيا لم تستفد من خبرة فشل اختبار آخر عن قرب؛ عندما أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية.. واحدة من أكثر الطائرات أمريكية المسيرة تطورا – في العالم – أقلعت من قاعدة خليجية، للتجسس على السواحل الإيرانية. فضلا عن الوعي لدى الجميع، بأن إيران تستطيع احتجاز الناقلات العابرة في مضيق هرمز، استنادا إلى أسباب عديدة، تبدو أكثر وجاهة ومصداقية، من أية أسباب تسوقها – أو تختلقها افتراضا – كل من بريطانيا والولايات المتحدة.

انتظرت إيران أسبوعين على احتجاز بريطانيا الناقلة “جريس-1″، قبل أن تحتجز الناقلة البريطانية “استينا-أمبيرو”، بحجة مرورها في المياه الإقليمية الإيرانية دون استئذان. مع العلم بأن إيران تسمح كل يوم بما يسمى “المرور البريء” لكثير من السفن – في مياهها الإقليمية – اعتمادا العلاقات الطيبة بين إيران والدولة التي ترفع تلك السفن أعلامها. وهنا هاجت بريطانيا وماجت، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، واتهمت طهران بالقرصنة البحرية، وهددت بإرسال قطع بحرية مقاتلة، لحماية السفن والناقلات التي ترفع علمها في الخليج ومضيق هرمز.

قالت المصادر البريطانية أن لديها في البحرين أربع كاسحات ألغام، وسفينة معاونة واحدة، إلى جانب الفرقاطة “مونتروز” – التي فشلت في حماية الناقلة “استينا-أمبيرو” – قبل أن تضيف إليها الفرقاطة الأخرى “دنكان”. ونوّهت بأن هناك تحالفا من 33 دولة، يضطلع بتأمين الملاحة في الخليج.

لكن الواقع على الأرض – أو في مياه الخليج – أوضح أن إيران استطاعت بالفعل توقيف الناقلة البريطانية، واقتيادها إلى ميناء بندر عباس، واحتجازها هناك. ولم ينجح التواجد العسكري الأمريكي-البريطاني-الغربي في حمايتها. كما أن بريطانيا لم تستطع إلا إضافة قطعة حربية واحدة أخرى، لرفد الحشد المحدود القدرات.

بعد شهر من المواجهة، وعجز بريطانيا عن تحرير ناقلتها المحتجزة، لم تجد أمامها سوى إحالة ملف القضية إلى.. تابعتها.. سلطات جبل طارق، في محاولة لحفظ ماء الوجه، وتحميل ما يسمى “حكومة” في جبل طارق التبعات المهينة للتهافت البريطاني، رغم أن قرار الاحتجاز اتخذ في لندن، ونفذته قوات البحرية البريطانية التي تتمركز في جبل طارق. وكذلك تبعات التجني والاختلاق والتضليل والتوريط الأمريكي.

والآن.. أصبح مقررا أن تتحرر الناقلة الإيرانية، قبل أن تقرر طهران إطلاق الناقلة البريطانية.

العبرة مما جرى ما يلي:

  • واشنطن اختلقت اتهاما باطلا أو غير مؤكد – على الأقل – لتبرير اتخاذ إجراءات تتفق مع توجهاتها السياسية، بما يفيد أن تلك التوجهات غير عادلة وغير منطقية. وهذا يضرب – في القلب – مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية؛ وليس تقاريرها الاستخبارية فقط.
  • واشنطن استهانت ببريطانيا.. واستغلت تهافتها، وأغرتها – أو أجبرتها – على اتخاذ إجراءات.. لا تستطيع تحمل عواقبها، رغم الزعم الأمريكي لعلاقة خاصة مع لندن.
  • بريطانيا تورطت فيما لا تحمد عقباه، بناء على معلومات مغلوطة، ممن تعتقد صدقه وإخلاصه، فلم تحسن التقدير، وأساءت التصرف. ووضعتها واشنطن في موقعها الصحيح؛ تابعا وليس شريكا.
  • في محاولة لحفظ ماء الوجه، تهربت بريطانيا من مسؤوليتها، وأكلت الثوم بفم تابعتها “حكومة” جبل طارق.. تابع التابع. وتلقت واشنطن صفعة غير متوقعة من لندن، عندما رفض تابع التابع – هذا – طلبا أمريكيا جديدا لتجميد قرار إطلاق الناقلة الإيرانية
  • إيران لم تقدم أي تنازلات، وفرضت موقفها على الأرض.. في الجو.. وعلى سطح مياه الخليج.

والسؤال هنا: كيف ترى الدول العربية ما جرى؟ وكيف تفهمه؟

هذا درس مهم في دبلوماسية المواجهة.

شاهد أيضاً

مصطفى الفقي

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

اعترافات ومراجعات (8).. «أحلام الشباب.. ذكريات لا تنسى»

نبيل عبدالفتاح

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة

الحياة الرقمية وثقافة التفاهة