نتأمل كيف نملأ النصف الفارغ من الكوب
الرئيسية / اخبار السلايدر / هل وصلوا إلى ناصر بالسم؟

هل وصلوا إلى ناصر بالسم؟

في عام مئوية ميلاده وذكرى رحيله الثامنة والأربعين

عبدالله السناوي يكتب:

تبدو قصة «الرحلة» ليوسف إدريس نبوءة غير قابلة للتصديق.. حيث توقع رحيل عبدالناصر قبل موعده بثلاثة أشهر، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.

 وفق ما هو مسجل فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج أن بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم أو بالمرض.

الكل وقد داهمتهم وفاة عبد الناصر حتى وإن لم تكن الوفاة مفاجأة بالنسبة للبعض بدأوا يتكتلون ويناورون ويتقاتلون حول من يخلف المسجى جثمانه بداخل قصر القبة.

مما قيل وتردد منسوبًا إلى خبير العلاج الطبيعي على العطفي أنه قام بعمل تدليك لساقى الزعيم الراحل بمادة سامة قضت على حياته.

رواية خالد عبد الناصر عما حدث لا تجيب عن سؤال الملف الغامض: هل وصلوا فعلا إلى «عبد الناصر» بالسم؟

»سنرحل حالًا، سنرحل إلى بعيد . . بعيد إلى حيث لا ينالك ولا ينالني أحد.
أعرف أنك تفضل اللون الكحلي.. ها هو البنطلون إذن.. ها هي السترة.. بالتأكيد ربطة العنق المحمرة، فأنا أعرف طبعك.. لست بالغ الأناقة، نعم. ولكنك ترتدى دائمًا ما يجب، ما يليق.
أنت لا تعرف أنني أحب شعرك.. خفيف هو متناثر.

بيدي سأمشطه.. بعدها وبالفرشاة أسوى شاربك.. حتى هذا النوع من الشوارب أحبه.
هكذا رأيتك مئات المرات تفعل، وهكذا أحببت كل ما تفعل«.

بشيء أقرب إلى المناجاة، والتوحد مع شخص لا يقول من هو، يأخذه في رحلة عبر سيارة، تمضى بلا عودة.
بإيقاع متدفق، تستبين رائحة الموت في السيارة، قبل أن يُفصح الراوي – بنوع من التورية – عمن يقصد، إنه الرئيس جمال عبدالناصر.

»وداعًا يا سيدى يا ذا الأنف الطويل وداعًا». 

تبدو قصة «الرحلة» لـيوسف إدريس، التي نشرتها صحيفة «الأهرام» في يونيو 1970، نبوءة غير قابلة للتصديق، حيث توقع رحيل عبدالناصر، قبل موعده بثلاثة أشهر، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح.

«لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيي وأقبل رأيك؟ لماذا كنت دائمًا أتمرد؟ لماذا كرهتك في أحيان؟ لماذا تمنيت في لحظات أن تموت لأتحرر؟ مستحيل أن أكون نفس الشخص الآن، الذي يدرك أنه حر، الحرية الكاملة بوجودك معه، إلى جواره، موافقًا على كل ما يفعل.
تصور، يريدونك أنت الحي جثة يدفنونها.. مستحيل، يقتلونني قبل أن يأخذوك، ففي أخذك موتى، في اختفائك نهايتي، وأنا أكره النهاية كما تعلم.. أكرهها . . أكرهها.
يكفي أنك معي.. أنت أنا.. أنت تاريخي وأنا مجرد حاضرك.. والمستقبل كله لنا.. مستحيل أن أدعهم يأخذونك، يميتونك، يقتلونك«.

لم يكن يوسف إدريس، على صلة وثيقة بمجريات الأمور خلف كواليس الحكم، حتى يتسنى له أن يعرف مدى خطورة ما يتعرض له الرئيس من مصاعب صحية، أو أنه أصيب بأزمة قلبية أولى أثناء حرب الاستنزاف، إثر إغارة إسرائيلية على منطقة الزعفرانة، تمكنت من الوصول إلى رادارات حديثة، وقتل خلالها خمسة جنود، وبعض المدنيين المصريين، أو أنه يعاني من آلام في العظام، استدعت علاجه في مصحة «تسخالطوبو» الروسية.
إنه إلهام الأدب وروح التراجيديا، التي تتوقع شيئًا ما غامضًا، يحدث فجأة، والتوحد مع بطله.

بالتكوين السياسي، لم يكن يوسف إدريس ناصريًا.
وبالتجربة الإنسانية، فقد عارضه ودخل سجونه، قبل أن يعاود النظر في تجربته، ويدافع عنها بعد أن انقضى زمنه.
نصه القصصي يكشف مكنونات نفسه، وما يخالجها من مشاعر متناقضة.
ها هو يعترف، بأنه تمنى أن يموت عبدالناصر، حتى يتحرر، ويجاهر بأنه كان يكرهه. فإذا به قرب ما استشعر أنها النهاية، يتوحد معه، ويعلن استعداده للقتال، حتى لا يصلوا إليه.

لم يكن يوسف إدريس وحده، الذي انتابته تلك التحولات الحادة في المشاعر؛ من الكراهية المقيتة إلى المحبة الغامرة.

«سيظلّ ذو الوجهِ الكئيبِ وأنفُه ونيوبُه
وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب
إلاّ إذا
إلاّ إذا مات
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقًا بما يلقيه من عفنٍ على وجهِ السماء
في ذلك اليوم الحبيب
ومدينتي معقودة الزنار، مبصرة سترقص في الضياء
في موت ذي الوجه الكئيب».

كانت تلك كراهية لا حدود لها، عبّر عنها الشاعر صلاح عبدالصبور – في أعقاب أزمة مارس 1954.
نُشرت ـ لأول مرة ـ ضمن ديوانه «الناس في بلادي» عام 1957.
حتى يتجنب أية مساءلة قانونية، أو سياسية – تنال من حريته – أهدى قصيدته الهجائية إلى «الاستعمار وأعوان الاستعمار».
إنه مثقف أخذ موقفًا ـ في وقته وحينه ـ من أزمة عاصفة غيّرت معادلات الحكم، وعبّر عنه في قصيدة تحمل مسئولية نشرها.
غير أن اختبار الزمن غيّر موقفه من نقيض إلى نقيض، بعدما رحل الرجل – الذى تمنى موته – بعد ستة عشر عامًا، ولم يعد يملك لأحد نفعًا أو ضرًا.

«هل مت؟ لا، بل عدت حين تجمّع الشعب الكسير
وراء نعشك
إذ صاح بالإلهام:
مصر تعيش.. مصر تعيش..
أنت إذن تعيش، فأنت بعض من ثراها
بل قبضة منه تعود إليه، تعطيه ويعطيها ارتعاشتها
وخفق الروح يسرى في بقايا تربها، وذِمًا دماها
مصر الولود نمتك، ثم رعتك، ثم استخلفتك على ذراها
ثم اصطفتك لحضنها،
لتصير أغنية ترفرف في سماها».

كان هو نفس الرجل، الذي تمنى موته قبل ستة عشر عامًا.
عندما مات فعلًا، كاد الشاعر ألا يصدق:

»هل مات من وهب الحياة حياته؟«.

بكاه بحرقة – في قصيدته «الحلم والأغنية» – فهو حلم للفقراء والمعذبين، وهو أغنيتهم:

«كان الملاذ لهم من الليل البهيم
وكان تعويذ السقيم
وكان حلم مضاجع المرضى، وأغنية المسافر في الظلام
وكان من يحلو بذكر فعاله في كل ليلة
للمرهقين النائمين بنصف ثوب، نصف بطن
سمر المودة والتغني والتمني والكلام.
وكان مجيئه وعدًا من الآجال،
لا يوفى لمصر ألف عام.
كأن مصر الأم كانت قد غفت، كي تستعيد شبابها ورؤى صباها
وكأنها كانت قد احترقت
لتطهر ثم تولد من جديد؛ في اللهيب
وخرجت أنت شرارة التاريخ من أحشائها
لتعود تشعل كل شيء من لظاها«.

كيف حدث ذلك؟
ولماذا كانت تلك التحولات الحادة في المشاعر والمواقف؟
بأي نظر موضوعي، فإن الفارق هو حجم الإنجاز الاجتماعي ـ الوطني، الذي تحقق بين عامي 1954 و1970، وحجم ما حلق في الأفق العام من آمال، وأحلام لامست عمق اعتقاد جيل الأربعينيات، الذي ينتسب إليه يوسف إدريس وصلاح عبدالصبور.

رغم الهزيمة العسكرية في 1967، بقيت الأحلام تراود نفس الجيل؛ رغم انكسارها.
في مقاربات الرحيل، بدا كلاهما مستعدا أن يموت، كي يحيا المعنى في رجل؛ عارضاه ذات يوم.

 

***

»لن يتركونى أبدًا».
كانت عبارته قاطعة، وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى ينالوا منه «قتيلًا، أو سجينًا، أو مدفونًا فى مقبرة مجهولة».
كان يُدرك أن القوى التي يحاربها سوف تحاول الانتقام، وأن الانتقام سوف يكون مروعًا.
بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبي، وهو يستمع إليها ذات مساء من شهر ديسمبر عام 1969، عند ذروة حرب الاستنزاف؛ كما روى خالد عبدالناصر.
ربما أطلق جمال عبدالناصر هذه الكلمات، بكل حمولاتها السياسية والإنسانية، في ذات اليوم الذى استمع فيه إلى تسجيلات التقطتها ميكروفونات حديثة، في مدخل السفارة الأمريكية وصالونها، وغرفة الطعام والبهو الأعلى بمبناها؛ في العملية التي أطلق عليها «الدكتور عصفور» ـ كما كشف الأستاذ محمد حسنين هيكل.

كان الكلام المسجل – الذي استمع إليه، وكتب نصه على ورق أمامه، بتاريخ اليوم السادس من ذلك الشهر (ديسمبر 1969) – بالغ الخطورة، إلى حد دعا رئيس المخابرات المصرية – حينئذ – أمين هويدي، أن يحمله بنفسه دون إبطاء إلى الرئيس.

وفق ما هو مسجل، فإن قيادات الدولة العبرية توصلت إلى استنتاج بأن «بقاء إسرائيل، رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم، أو بالمرض، خشية أن يُفضي أي إنجاز عسكري للقوات المصرية، إلى مد جديد لحركة التحرر الوطني في العالم العربي، لا تقدر على صده».
هناك شبهات أخرى رواها هيكل، ترجح أنهم وصلوا إليه بـ«السم» في فنجان قهوة، يوم انعقاد القمة العربية الطارئة، لوقف حمامات الدم في شوارع عَمان، التي توفى بعد انتهاء أعمالها، غير أنه لم يكن متأكدًا من صحة ما اشتبه به.

أثيرت الشكوك نفسها حول وفاة عبدالناصر المفاجئة، في شهادة للفريق محمد صادق – رئيس أركان القوات المسلحة في ذلك الوقت، ووزير الدفاع بعد أحداث مايو 1971.
»الكل وقد داهمتهم وفاة عبدالناصر حتى وإن لم تكن الوفاة مفاجأة بالنسبة للبعض، بدأوا يتكتلون ويناورون ويتقاتلون حول من يخلف المسجى جثمانه بداخل قصر القبة«.
صراعات السلطة مسألة طبيعية في مثل هذه الأحوال.
يستلفت الانتباه ما كتبه (الفريق صادق) عن أن الوفاة لم تكن مفاجأة بالنسبة للبعض، دون أن يُفصح على أي أساس توصل إلى استنتاجه.

إذا لم تكن الوفاة مفاجأة كاملة، يصعب التعويل على فرضية الوصول إليه بالسم.
»كانت الساعات شديدة الوطأة، فبعض الأطباء يرفضون كتابة شهادة وفاة لعبدالناصر، ويصرون على تشريح الجثة لتأكيد شكوكهم. وقد أخبرنى الدكتور رفاعى كامل أنه يشك فى أن الرئيس مات مسمومًا، وأن أظافره زرقاء اللون تضاعف من شكوكه، وأنه ليس وحده الذى يشك فى ذلك، وأنهم يريدون أن يقطعوا الشك باليقين«.

لم تكن الشكوك وليدة لحظة استجدت حساباتها، واستدعيت تساؤلاتها من الذاكرة، بل كانت ماثلة في لحظة الوفاة المفجعة، دون أن يكون ممكنًا في أية لحظة أي حسم.
الشكوك طبيعية لكنها لا تجزم.

لسنوات طويلة بعد رحيل عبدالناصر، نُشرت قصص تنفى ما هو معلن، عن أسباب رحيله المفاجئ.
فى 30 سبتمبر 1986أصدر ثلاثة من أطبائه الشخصيين ـ الدكتور منصور فايز، والدكتور زكى الرملي، والدكتور الصاوى حبيب ـ بيانًا مشتركًا، يصحح ما أشيع أيامها عن أسباب الوفاة، سلمه صهره حاتم صادق إلى مكتب رئيس تحرير صحيفة «الأهرام»، غير أنه لم يُنشر.
مما قيل وتردد ـ منسوبًا إلى كبير أمناء الرئاسة صلاح الشاهد ـ أن «عبدالناصر أصيب بغيبوبة سكر في مطار القاهرة – بعد توديعه أمير الكويت – عند انتهاء مؤتمر القمة العربي الطارئ، وأن طبيبه المرافق الدكتور حبيب أعطاه حقنة «أنتستين بريفين»؛ أفضت إلى وفاته.

لم يكن ذلك صحيحًا بشهادة الأطباء الثلاثة.
بالوثائق والشهادات، رفع الدكتور حبيب دعوى قضائية ضد كبير أمناء الرئاسة، لإثبات بطلان ذلك الاتهام وكسبها.
من أسباب كسبه الدعوى القضائية – التي رفعها – أن «أنتستين بريفين» ليست حقنًا، وإنما نقط للأنف، وأنه قد أعطى الرئيس حقنة قلب قبل ساعتين من وفاته.

بتوصيف الدكتور حبيب للأزمة الصحية الخطيرة – التي داهمت عبدالناصر في مطار القاهرة الدولي – «كان العرق على جبهته باردًا، ولونه شاحبًا ونبضه سريعًا، وضغطه منخفضًا وأطرافه باردة، وكانت تلك علامة على صدمة قلبية، عطلت حوالى 40% من عضلاته».
مما قيل وتردد ـ منسوبًا للدكتور رفاعي كامل استشاري القلب ـ أن عبدالناصر توفى بـ«غيبوبة سكر»، دون أن يعلن فرضية الوصول بالسم، التي ذكرها – في وقته وحينه – لرئيس الأركان.
فرضية «غيبوبة السكر» نفاها الدكتور حبيب، جازمًا بأن الدكتور رفاعي انقطعت صلته بمنشية البكري قبل ثلاث سنوات، ولم يكن في وضع يسمح له بالحكم الطبي الدقيق.

ومما قيل وتردد ـ منسوبًا إلى خبير العلاج الطبيعي علي العطفي، أنه قام بعمل تدليك لساقى الزعيم الراحل، بمادة سامة قضت على حياته.
بما هو ثابت، لم يدخل هذا الرجل – الذى قُبض عليه يوم 18 مارس 1979 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل – منزل عبدالناصر أبدًا.
أدانه القضاء بالتهمة المشينة، وقد اعترف بها – مراهنًا في ظروف وملابسات الصلح المصري الإسرائيلي – على تدخل ما ينقذه من حبل المشنقة.
بتدخل من رئيس الوزراء الإسرائيلي – في ذلك الوقت – مناحم بيجين لدى شريكه المصري في معاهدة الصلح أنور السادات، الذى قاسمه جائزة «نوبل» للسلام – خفف الحكم عليه إلى السجن المؤبد.
السادات رفض العفو عنه، وقد يكون من أسبابه، ما تردد من أنه قام بتدليك ساقيه هو نفسه؛ حسب روايات شاعت دون تأكيد.
في ظروف وملابسات معاهدة السلام، حاول العطفي أن يُضفى على نفسه «بطولة إسرائيلية»، تزكي سعيه للعفو، فأخذ يروى للمسجونين، أنه »هو الذى سمم عبدالناصر«.
كادوا يفتكون به، وكان ممن استمعوا إليه خلف الجدران، الشاعر أحمد فؤاد نجم.

كأي بطل تراجيدي من هذا الحجم في التاريخ، فإن السجال لن يتوقف حول الطريقة التي انتهت بها حياة عبدالناصر.
الأرجح أنه رحل بأزمة قلبية ثانية، نالت منه بعد يوم طويل، في قمة عربية منهكة. لكن لا يمكن استبعاد احتمال، أنهم وصلوا إليه بـ«السم«.
مات على سريره بعلة قلب، أو لأي سبب طبي آخر، وربما بأثر سم، وقد كان النيل من حياته هدفًا دائمًا للاستخبارات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية، حسب وثائق متاحة ومنشورة.
لا أدخل سجنًا، ليحاكمه أعداؤه على مشروعه ومعاركه، وبقيت صورته في التاريخ ـ بالاتفاق أو الاختلاف ـ أهم شخصية عربية في العصور الحديثة.
ولا دفن في مقبرة مجهولة – لا يعرف أحد أين هي – وضريحه في منشية البكري؛ بالقرب من منزله، الذي تحوّل إلى متحف، لا يزال مزارًا لكل من ألهمته ذات يوم، تجربته في العدل الاجتماعي والتحرر الوطني.
كانت جنازته بحرًا من الدموع؛ حسب تعبير وكالات الأنباء العالمية وقتها.
لم تتحقق نبوءته، التي أطلقها ذات مساء، أمام نجله الصبى خالد عبدالناصر.
»أعتقد أن والدى مات بالإرهاق، بأكثر مما مات بأزمة قلب ثانية في أيلول الأسود«.

سيرته الصحية ترتبط بتواريخ السياسة.. أثناء الحصار الاقتصادي – الذي فرضه الغرب على مصر – أصيب بمرض السكر عام 1958.. وبعد نكسة 1967، نالت منه مضاعفات السكر بصورة خطرة.. إرهاق العمل المتواصل ليلًا ونهارًا – في سنوات حرب الاستنزاف – أصابه بأزمة قلب أولى.                  أزماته الصحية كان يمكن السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدى أوامر الأطباء، فلا سبيل لتداركها.

«من عرف عبدالناصر في تلك الأيام، كان يُدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحًا، أو الاستمتاع بأي شيء، قبل إزالة آثار العدوان».
كانت تلك شهادة رواها صديقي الراحل الدكتور خالد عبدالناصر، عن قصة المرض، وأيام النكسة، وحرب الاستنزاف، والرحيل المفاجئ، وما بعد الرحيل من قصص إنسانية، ترتبت على انقلابات السياسات المصرية، بعد أن غربت «يوليو» ووارى الثرى زعيمها.
غلبت البكائيات على ما كان يتذكره من وقائع حتى خشيت عليه من التوحد مع الماضى.

ذات مرة والساعة تقترب من الرابعة صباحًا، في أوائل عام 2003، ران صمت طويل، تقطعه نوبات بكاء؛ كأن عبدالناصر مات الآن.
على خط هاتفي آخر من داخل نفس البيت، كان معنا شقيقه عبدالحميد، ندقق بعض تفاصيل ما جرى في بيته، يوم رحيله.
انهار هو الآخر، ودخل في بكاء مرير.
صمت تمامًا، لم أعلق بكلمة واحدة، وتركت المشاعر تأخذ مداها، لعل البكاء يريح.
بعد «ثورة يناير» بشهور قليلة، رحل خالد، بعد معاناة مع المرض، غير أن روايته الكاملة لما كان يجرى خلف الأبواب الموصدة، تظل أهم الروايات للجانب الآخر في شخصية جمال عبدالناصر.
الأب قبل الرئيس، والإنسان قبل السياسي.

***

«قبل ذهاب والدي لمصحة «تسخالطوبو» في الاتحاد السوفيتي عام 1986 للاستشفاء، قضى شهرًا كاملًا في فيلا المعمورة بالإسكندرية، فوق سرير المرض متأثرًا بمضاعفات مرض السكر.
كان أبي وأمي يعيشان بالدور الثالث.
دخلت عليه في غرفة النوم. وجدته يتأوه من الألم. رآني، حاول أن يخفى علامات الألم.
كنا نحس به، ولكنه نجح ـ لحد كبير ـ في خداعنا والتهوين علينا.
لم نعرف أنه أصيب بأزمة قلبية. حتى فوجئنا بالثانية القاتلة. حتى أمي لم تعرف. لا أسامح نفسي، على أنني لم أفهم معنى إقامة مصعد ببيت منشية البكري في 14 ساعة، لأن أبي أصيب بأزمة قلبية، تمنعه من صعود السلم للدور الثاني.
صاحبناه ـ والدتي وأنا وشقيقاي عبدالحميدي وعبدالحكيم ـ فى رحلة العلاج لمصحة «تسخالطوبو». تحسنت حالته الصحية هناك. لم يكن مسموحًا لنا الحضور في جلسات العلاج.
قضينا أوقاتًا رائعة، ولم نكن قلقين على صحته، نجح في خداعنا».

في الساعة الخامسة من مساء 28 سبتمبر 1970، كنت انتهيت لتوي من تدريب كرة يد بنادي هليوبوليس؛ في ضاحية مصر الجديدة.
جلست مع أصدقائى في «التراس» نحتسى الشاي والقهوة، وعلى المائدة المقابلة داليا فهمي؛ زوجتي فيما بعد.
لم يكن هناك شيء غير عادي.
مؤتمر القمة الطارئ انتهى بنجاح.
أبي يعود اليوم للبيت، بعد أربعة أيام قضاها في فندق هيلتون النيل، للمشاركة في القمة.
لم أكن أعرف أنه لم ينم، ولم يرتح طوال هذه الأيام، لوقف نزيف الدم الفلسطيني في عَمان.
رأيت أمامي – فجأة – عصام فضلي؛ وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس، لم يحدث من قبل أن أرسل والدي لاستدعائي ضابطًا من حرسه الشخصي.
قال لي: «تعال.. عايزينك في البيت». لم يزد حرفًا.
في أقل من خمس دقائق وصلت، صعدت سلم البيت قفزًا، بتساؤل يكاد يشل الروح: «ماذا حدث؟». فكرت في كل احتمال، لم يخطر على بالي ما حدث.

حركة غير عادية في الدور الثاني بغرفته.
الباب مفتوح.
أبي أمامي على السرير مرتديًا بيجامة، طبيبه الخاص الدكتور الصاوي حبيب، يحاول إنقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب.
السيد حسين الشافعي بزاوية الحجرة، يصلى ويبتهل إلى الله.
الدكتور الصاوي قال – بلهجة يائسة – كلمة واحدة: «خلاص».
الفريق أول محمد فوزي نهره – بلهجة عسكرية -: «استمر».
ثم أخذ يجهش بالبكاء.

نفذ أمر الله.
أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب.
لم أبكِ.
وقفت مصدومًا. بكيت بمفردي – بعد أسبوعين – لثلاث ساعات مريرة.
لم أصدق أن أبي رحل فعلًا.
أمي أخذتها حمى أحزانها، أخذت في البكاء والنحيب؛ كأي زوجة تنعى رجلها و«جملها».
جاء أنور السادات، وتبعته ـ على عجل ـ السيدة جيهان بفستان أزرق.
السادات نهرها: «امشي البسي أسود وتعالي».
بدأ توافد كبار المسئولين في الدولة على البيت.

بعد قليل اجتمع عدد كبير من الوزراء وقيادات الدولة في الصالون، تقرر نقل جثمان الرئيس لقصر القبة، حيث تتوافر هناك إمكانات الحفاظ عليه في درجة تبريد عالية، لحين إحضار ثلاجة خاصة لهذه الحالات، والانتهاء من إجراءات الجنازة، وإعلان الخبر الحزين على الشعب.
بدأت الإذاعة والتليفزيون في بث آيات من القرآن الكريم.
لم يدر أحد ما حدث، حاولت داليا الاتصال بي للاطمئنان.
أخيرًا أمكنها الوصول لعامل «السويتش«.
قال وهو يبكى: «الريس مات«.

حملت قوة الحراسة الشخصية جثمانه على نقالة إسعاف، بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلوه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت لي مِسكًا.
تابعت أمي الجثمان – المحمول على نقالة إسعاف – بنحيب دوى في المكان، الذي كان للحظات قليلة مضت، المقر الذي تدار منه مصر، وصراعات المقادير على المنطقة.
قال لها السادات – على طريقة أهل الريف في مثل هذه الأحوال – : «يا تحية هانم.. أنا خدامك«,

مضى أبي أمام عيوننا محمولًا على نقالة إسعاف، لم يعد. لم نره مرة أخرى.
لم تذهب معه أمي ولا أحد من أبنائه لقصر القبة.
أمي جلست على السلم تنتحب.
ما زال يدوي في وجداني بكاء أمي الملتاعة، وهى تجري وراء الخروج الأخير لعبدالناصر من بيت منشية البكري:
»وهو عايش خدوه مني. وهو ميت خدوه مني«.

***

ما جرى خلف الأبواب المغلقة – كما تكشفها رواية خالد عبدالناصر – يعطى فكرة عن فداحة صدمة الرحيل المفاجئ، ومدى الحزن الاستثنائي، الذي شهدته مصر فى ذلك اليوم البعيد قبل 48 عاما، لكنه لا يجيب عن سؤال الملف الغامض: هل وصلوا فعلا إلى عبدالناصر بالسم؟
السؤال سوف يظل مطروحا لآجال طويلة مقبلة، يلح ويضغط، بقدر الدور الذي لعبه، والشعبية التي حازها، والتهديد الذي مثّله لمصالح واستراتيجيات غربية وإسرائيلية، سعت للوصول إليه والتخلص منه.

نقلا عن “الشروق”.

شاهد أيضاً

فلسطينيون يقتادون اسرائيليا في خان يونس بقطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023. (أ ف ب)

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على مواقع يمكن أن تكون أهدافا للقصف الجوي الإسرائيلي على القطاع.

السفير شريف كامل واللواء المشرفي وقرينتاهما أثناء عزف السلام الوطني. (تايمز أوف إيجيبت)

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في حرب أكتوبر المجيدة.