أحمد الجمال..
في أول يناير من كل عام، يحتفي الناس بميلاد عام جديد. ومن هؤلاء الناس من يحتفي بذكرى ميلاد عزيز غالٍ عليه. وقد كان مرور واحد وثمانين عاماً على ميلاد صديقي العزيز.. الأستاذ الدكتور أحمد مرسي – رحمة الله عليه – في أول يناير 2025؛ مناسبة لأخلو مع ذكرياتي معه، ولقاءاتنا التي لم تنقطع.. حتى وهو يمشي وعلى أنفه وفمه كمامة، تنقل الأكسجين من خرطوم يتصل بجهاز يحمله – دوماً إلى جواره – ابنه الوفي البار الأستاذ الدكتور محمد أحمد مرسي، أستاذ العلوم السياسية.
وقد ظل صديقي الرائع.. متمسكاً بالحياة، وبالابتسامة المشرقة، وبالحديث عن تراثنا المعنوي المصري؛ الذي نذر حياته لجمعه وتصنيفه، وإجراء البحوث العلمية حوله، وحمايته من التبدد والسرقة، والعمل على تهيئة أجيال جديدة.. من الباحثين الأكاديميين، تتخصص وتعتمد على أحدث وأهم المناهج، وأدوات البحث العلمي؛ ليبقى تراثنا الشعبي حياً وموحياً بالحكمة البسيطة، والعميقة.. في آنٍ واحد.
ولم يكن مثل الدكتور أحمد مرسي في زماننا هذا؛ دأباً ودراية بالأمثال الشعبية، التي كان يحرص أن ينشر – وبشكل شبه يومي – واحداً منها.. على صفحته في الفيس، ليتابعه آلاف البشر؛ يمتنون ويكتبون ويضيفون، وكأن الصفحة قاعة بحث في كلية جامعية متخصصة.
ولأن المعارف تستدعي بعضها البعض، إذ ما إن يكتب كاتب في موضوع ما، إلا وتصادفه تفريعات متصلة بما يكتب، وبالكاد يستطيع أن يكبح جماح السعي وراء كل تفريعة، كي لا يتحول الأمر إلى موسوعات بلا ضفاف.
ولا أبالغ، إذا قلت إن موضوع الأمثال الشعبية.. يُعد نموذجاً فريداً للمنحى الموسوعي، لأننا قد نجد في مثل واحد – مكون من عدة كلمات – مجالاً للحديث وللبحث وللكتابة.. في كل الفروع؛ كالجغرافيا والتاريخ، والاجتماع والأنثروبولوجي، والسياسة والاقتصاد والفلكلور.. بل والعلوم التجريبية أيضاً.
ولا أنكر أنني انبهرت – وأنبهر على الدوام – بالطريقة التي عالجت بها الموسوعة البريطانية – في شكلها الأسطواني الإلكتروني – أمر هذا التفرع، إذ قد يطلب القارئ الاطلاع على مادة ما؛ ولتكن اسم شخصية عامة.. كملك أو رئيس أو مفكر أو عالم، فتكتب ما تطلب وفق التقنية المتبعة، ويظهر محتوى المادة على الشاشة؛ كلمات بلون أسود، تتخللها كلمات أخرى بلون أزرق، مثلاً، فإذا نقرت على الكلمة الزرقاء اللون انفتحت صفحات أخرى.
أعود إلى الأمثال الشعبية، لأجد أن ثمة قائمة مراجع ومصادر متنوعة، يعتمد عليها الباحثون في ذلك المضمار، وطبعات مختلفة – منها العربية والإنجليزية والفرنسية – وباللغة العربية نجد «كتاب الأمثال» لأبي منصور النيسابوري، (المتوفى سنة 429 هجرية)، وكتاب «جمهرة الأمثال» لأبي هلال العسكري، (المتوفى سنة 395 هجرية)، ثم نجد كتباً منها: «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» لأحمد أمين، و«الأمثال العامية» لأحمد تيمور، و«علم الفلكلور»، الذي ترجمه أحمد رشدي صالح.. وهو مؤلف فنون الأدب الشعبي، و«عادات الزواج وشعائره لأحمد الشنتناوي»، و«مباهج الفلسفة» لأحمد فؤاد الأهواني، و«أمثال العوام من مصر والسودان والشام» لبولين سنجر، و«الأمثال البغدادية» لجلال الحنفي، و«أمثال العامة في الأندلس.. بحث لعبدالعزيز الأهواني»..ضمن كتاب «في ذكرى طه حسين»، و«المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم» لإدوارد لين، و«حدائق الأمثال العامية» لفايقة حسين، و«أمثال الأمم الأوروبية» ترجمة محمد رضا، و«تهذيب الألفاظ العامية» لمحمد علي الدسوقي، و«أمثال المتكلمين من عوام المصريين» لمحمود أحمد عمر الباجوري، و«قاموس الكلمات المأثورة» لناشد جورجي، و«أشكال التعبير في الأدب الشعبي» لنبيلة إبراهيم، و«مجموعة أمثال عامية مصرية» ليوسف خانكي، وغيرها من مراجع ومصادر.. حفلت بها قائمة المراجع التي أوردها إبراهيم أحمد شعلان، في كتابه «الشعب المصري في أمثاله العامية»، الذي نُشر عام 1972 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وقد بذل المؤلف إبراهيم شعلان.. جهداً كبيراً، ليقاوم الاستطراد الموسوعي.. عند شرحه وتعليقه على الأمثال، التي وضع لها – في نهاية كتابه – قوائم موزعة على عناوين.. بلغت خمسين عنواناً. وتحت كل عنوان، كتب مقدمة الأمثال التي تخصه، ومنها عنوان «الشعب المصري والحكام»، الذي لن أقتبس منه شيئاً في هذه السطور.. حتى لا يتفذلك أهل السوء، ويفسروا الأمر على أنه إسقاط غير مباشر.. على الأوضاع الراهنة في مصر. وقد يكون الأوفق، هو نقل بعض الأمثال – مما ورد تحت عنوان «الغربة والاعتزاز بالوطن» – مثل «عويل بلاده عويل بلاد الناس»، و«يا رايح مصر على اسم باشا فيه ألف زيك»، و«اللي يعيش يشوف كتير، قال واللي يمشي يشوف أكتر»، و«الغربة تعلم»، و«بلاد الله لخلق الله»، و«البلاد بلاد الله والخلق عبيد الله»، و«خد لك من كل بلد صاحب، ولا تاخد من كل إقليم عدو»، و«الغريب لازم يكون أديب»، و«الغريب أعمى ولو كان بصير».
ثم يسخر المصري من الذي يغترب.. ولا يحسن استغلال غربته: «غربة ودلاعة»، و«ما نابه من غربته إلا عوجة ضبته»، ثم عن الغريب الأجنبي.. الذي يأتي لمصر لنهب خيرها: «اقتل الغريب وعل فؤاده، لو كان فيه خير كان يبقى في بلاده».
رحم الله صديقي العالم الجليل.. الدكتور أحمد مرسي.
نقلاً عن «الأهرام»