مصطفى حجازي..
المعرفة.. هي جوهر الإرادة التاريخية للشعوب،والوعي هو مناط قدرتها.
وفي كل صراع إنساني – كان وسيكون – تبقى «حقيقة الندية وأهلية الانتصار.. في حضور الإرادة أو غيابها».. في إرادة الحياة وإرادة الحرية،قبل كل ارتكان للحق التاريخي، وفوق كل تباين في موازين القوى.
بل إن حضور طرفٍ ما في صراع.. بقاءٍ أو ترقٍّ – أو غيابه – مرهونٌ بحضور إرادته أو غيابها، لا بحضور حشوده، ولا موارده، ولا سلاحه.
و لهذا، توجَّب الحديث عن فلسطين تأريخاً.. حتى وإن ظننا أنا نعرف كل ما جرى.
ما الذي جرى على فلسطين وعلينا؟ وما الذي سيجري عليها وعلينا..؟
فلسطين – على مدار قرابة المائتي سنة – ليست فقط مرآة حالنا في مصر والعالم العربي، ولكنها – ودونما تزيُّد – منشئة هذا الحال وبوصلة تداعياته.
فلسطين – وإن بدا جُرحها ينزف ظاهراً منذ قرابة الثمانين عاماً.. في خاصرة مصر والشام والعالم العربي، أو ما بقي منه عربياً – هي جرح لم يُحدثه تيودور هرتزل، ومن بعده اللورد بلفور- ما بين 1897 و1917 – ولكنهم فقط نكأوا جرحاً بدأه نابليون.. في حملته على الشرق قبل ذلك بمائة سنة في عام 1798، ولتتداوله – منذ ذلك الحين – أيادٍ وقرائح استعمارية.. على امتداد القرن التاسع عشر.
أيها الإسرائيليون: انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة.. كان هذا هو نداء نابليون بونابرت ليهود العالم، في عام 1798 ليزعموا لأنفسهم حقاً في فلسطين.
لم يكن نابليون حادباً على شتات اليهود، ولا منتصراً لشعب مقهور في أرضه، ولكنه كان مجسداً للعقل الاستراتيجي الأوروبي في القرن التاسع عشر، بل كان نجمه.
ذلك العقل الاستراتيجي.. الذي كان يحيا – بقلق شديد – تفاقُم المسألة اليهودية على أرض أوروبا، بعد موجات نزوح هائلة من يهود الشرق في روسيا.. جراء القهر الدموي الواقع عليهم من روسيا القيصرية، بل والتطهير العرقي الممارَس ضدهم. فكانت موجات النزوح من يهود الشرق الأوروبي للغرب الأوروبي.. هي النقطة الحرجة التي لم تستطع أوروبا الغربية المسيحية – وحتى يهودها – القبول بها، أو التعاطي معها أكثر.
جاءت فكرة نابليون العبقرية – مستغلة ظواهر الأفكار الكبرى، التي بزغت في التاسع عشر، وصارت عنواناً له -وهي ظواهر الوطنية، تأسيساً على الثورة الفرنسية ومبادئها، يليها التنافس الاستعماري بين القوى الأوروبية،ويليهم ظاهرتان صارتا متداخلتان؛ وهما المسألة الشرقية، والرغبة في الانقضاض على ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، ووراثة ممتلكاتها الأوروبية والأفريقية والآسيوية، ثم المسألة اليهودية، وتأفف أوروبا شرقاً وغرباً، مما اعتبروا فيه الشعب اليهودي.. وزراً اجتماعياً مستقذراً، ولم يكونوا في ذلك.. متزيدين، ولا عنصريين.
ولمن يريد أن يعرف مدى تدني الحالة اليهودية في المجتمعات الأوروبية، فليقرأ في مرآة الأدب الأوروبي.. كيف جاءت صورة اليهودي دائماً محتقرة؛فمن «شيلوك» المرابي الدموي – مُنتَزع القلب – الذي يقطع من لحم مستدينيه بلا رحمة.. في رائعة «وليم شكسبير» «تاجر البدقية»،إلى «فاجين» المجرم المستغل للأطفال.. في رواية «أوليفر تويست» للعبقري «تشارلز ديكنز». والملحوظة الحَرِية بالتأمل، هي أن رواية شكسبير تأتي في القرن السابع عشر، بينما رواية ديكنز تأتي في القرن التاسع عشر؛ أي أن الحال الممجوج لتلك الجماعة البشرية.. لم يكن أمراً عارضاً، ولكنه خُلُق سِفلة متجذر في نفوسهم.. جعلهم أهلاً لكراهية الشعوب واحتقارها.
وبينما الطوفان الأوروبي الهادر، يتحين الفرصة ليُعمل مخالبه في بلادنا استعماراً ونهباً على نحوٍ عام، وفي فلسطين على وجه الخصوص، استيطاناً وطمساً للهوية والتاريخ.. كنا خلف أستار التيه والجهالة – حكاماً ومحكومين.. ساسة ورعية – ولا يستثنى من ذلك إلا نزر قليل من ملوك ذلك الزمان؛ وقد يكون منهم محمد علي باشا، الذي قرأ بعضاً مما يحاك لفلسطين.. في سياق ما كان يدبر له، ولمشروعه الإمبراطوري بليل.
وكما جاءت إرهاصات البداية للمشروع الصهيوني.. في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر.. مماحكةً وتحرشاً بمصر، فما تلبث أن تلوح إرهاصات النهاية لذك المشروع، باستعداء واستنزاف مصر أيضاً.. في بدايات القرن الحادي والعشرين. فكأنما الأقدار أرادت أن تكون مصر الكبرى – بشامها وسودانها ومجالها الاستراتيجي – هي العنوان والهدف في المبتدى والمنتهى، حتى وإن كانت فلسطين هي مسرح الصراع.
كانت لحظة استدعاء الأقدار لمصر، لتكون في بؤرة الذود عن فلسطين، بل وعن الشرق – ضد المشروع الصهيوني – بذات قِدَمِ اعتقاد نابليون.. بأن مصر هي أهم بلد في العالم؛ اعتقاده الذي تأسس بدراسة التاريخ والجغرافيا، وترسخ بعد دراسته للاستراتيجيات الإمبراطورية، فصار الاعتقاد حقيقة لا تقبل الشك.
كان بونابرت يعي – أكثر ما يعي – عن حقيقة مصر.. في كونها تتجاوز مقر الحكم وتخومه في المليون كيلومتر مربع، الذي يعد بدوره رأس الجسد العربي. كان يعي حقيقتها بأنها.. هي «مصر الكبرى» المُقِرة والمستقرة.. بجسد عربي لا يصح إلا بالتواصل العضوي بين الشام والسهل السوري شمالاً، وضلع الزاوية الجنوبي.. امتداداً بكامل طول الشمال الأفريقي، وعمقاً حتى منابع النيل. ولهذا شأنه، كشأن كل من سبقوه ومن لحقوه.. من ملوك أصحاب أرض، أو فاتحين غزاه. يعرف قدرية ذاك التواصل العضوي.. لحياة ذاك الإقليم في التاريخ الحديث، ناهينا عن قدرته على النهوض والسبق في صراع إنساني في شأن الحضارة والتقدم.
و لهذا بَزغَ أصل المسألة في فلسطين، وكأنها مسألة مصرية محضه، حتى وإن كان مسرحها هو الشام وفلسطين على وجه الخصوص؛كما سيتبدى في محاولة نابليون لاستنهاض القومية اليهودية أولاً، ثم الزج بها – بوحي الأسطورة – أن تغتصب أرض فلسطين.
ومن المستغرب، أنه عندما أصبح نابليون إمبراطوراً لفرنسا، فإن مصر لم تغب عن حساباته.. رغم فشل حملته الشهيرة عليها، واندحاره منها بليل. ولم يغب عنه أكثر، فكرة الوطن اليهودي القادر على فصم التواصل العضوي والجغرافي والثقافي بين مصر «القلب والرأس»،ومصر الجسد العربي الممتد.
فإذا به، في عام 1807، يدعو إلى عقد مجمع يهودي «سانهردان»، ليحضره ممثلون عن كل يهود أوروبا، ويكون عنوانه «لم شمل الأمة اليهودية»،ويكون على رأس توصياته..«ضرورة إيقاظ وعي اليهود، إلى حاجتهم للتدريب العسكري.. لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس في حماية دينهم».
و لأن الرؤى الاستراتيجية الكبرى.. للأباطرة الفاتحين، لا تموت بموتهم، ولكنها تبقى في رحم التاريخ.. تنتظر من يأتي بعدهم ليصدقها ويحيلها واقعاً،فيأتي «بالمرستون» – رئيس الوزراء البريطاني، وقائده العسكري «لورد ويلنجتون» -الذي دحر نابليون في معركة «واترلو» – ليضع استراتيجية واضحة، يكون هدفها المعلن إنهاء ولاية مصر على سوريا، بإنهاء حكم محمد علي عليها.. ومن ثم فصم ضلعي الزاوية المصرية السورية، ثم حصر مصر داخل حدودها، وفي نطاق مصر الرأس. وبالضرورة تحويل صحراء سيناء إلى «سدادة فلين»،تقفل عنق الزجاجة المصري.. التي يمثلها وادي النيل، وذلك وفقاً لتعبير اللورد «روتشيلد» – المليونير اليهودي؛ رائد المسألة اليهودية إلى بالمرستون في العام 1839. وأخيراً القبول بوجهة النظر القائلة بضرورة فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود، وحضِّهم على إنشاء شبكة من المستعمرات الاستيطانية.. تكون ذات يوم آتٍ، العازل القادر على فصم تواصل مصر مع امتدادها الطبيعي.. في الشام وسوريا.
كانت قضية تنامي القوة العسكرية المصرية – ممثلة في جيش وأسطول، فاقا احتياجات الدفاع والردع – إلى قدرات توسعية، رآها الغرب محققة.. في الفتوحات المصرية للشام حتى التخوم التركية، والجزيرة العربية وأعالي النيل، بل وهزيمة الأسطول التركي، بل وضم القوة البحرية التركية للأسطول المصري آنذاك – قضية لا تقبل غضِّ الطرف عنها، ولا الترخص في تصفيتها.. وفقاً لرؤى القوى الاستعمارية حينها. وأظنها كذلك الآن أيضاً.
لم يكن التاريخ بخافٍ على أن قوة مصرية – غير ذاهلة عن قدر مصر، ولا مفرطة فيه، ولا متقزمة دونه – قادرة على قيادة المشرق العربي، وبعث الروح في الخلافة الإسلامية.. باستبدال الخلافة العثمانية المحتضرة بخلافة عربية، وأخيراً الهيمنة على طرق التجارة ومصادر الثروة.
وعليه، كان القطع بأن هزيمة القوة العسكرية المصرية البازغة.. الممثلة في جيوش الوالي محمد علي وأسطوله – الذي يبدأ وينتهي الأمر عنده – كفيل بحصار مصر وخنقها، وإخراجها من مضمار السبق الحضاري التوسعي.. بالضرورة.
ومنشأ ذلك القطع، كان على أرضية كون الجيش هو جيش الوالي ومشروعه.. منبتاً عن أي حاضنة فكرية أو مجتمعية.. تحتوي تلك القوة، أو تؤمن برباطها الوثيق بـ«معنى وطن»..يتجاوز الوالي وجوقته. تلك الحاضنة القادرة على احتواء أي هزيمة عسكرية، والنهوض منها.. نحو استكمال مشروع حضاري وطني، يعم أبناء شعب بأكمله، لا دائرة محاسيب والي وكفى.
كان الأمر مزيج نداء الأسطورة، وأحقاد تاريخية، ومطامع استعمارية.. في ثروات الشعوب ومقدراتها؛وكأنها روح الحروب الصليبية، تقود الفكر الغربي حينها. والفكرة الملحة والمحورية، هي كيفية – ليس فقط – دحر الشرق الإسلامي بكل أطيافه، ورمز شرعيته في الخلافة التركية٫ ولكن ضمان أن يبقى هذا الشرق مبدداً.. غير قادر على الالتئام.
وقد وافق نداء الأسطورة – لدى الجماعة اليهودية، وحقائق القوة والتفوق الغربي أو الصليبي – إن شئت – حالة من الانسحاب التاريخي، والخمول خلف أستار الجهالة في المشرق العربي بأسره؛مخاصمةً للعلم والعقل، وتماهياً في الدجل والأسطورة.. أكثر منه استنطاقاً لها، واستثماراً في كذبها؛ كما الحال لدى الغرب.. حتى صار حال الشرق تيهاً محققاً.
وبرغم محاولات جادة لاستنهاض بعضٍ من عقل الأمة – من الطهطاوي، إلى الكواكبي، إلى الأفغاني.. ومن محمد عبده، إلى خير الدين التونسي، إلى ابن باديس، إلى شكيب أرسلان، وغيرهم. كنا غائبين عن الصراع،لأننا كنا غائبي الإرادة.. جهلاً وتيهاً!
إذًا – وإخلاصاً لسعي المعرفة والوعي – نرى أن القرن التاسع عشر،أو المائة الأولى في ثلاثية غزة –وبامتياز.. كان قرن نداء الأسطورة وتأطيرها، لتصير غطاء أخلاقياً.. لكل ما يحاك لنا مصراً وفلسطيناً وعرباً،كما أنه قرن استنهاض المعاني.. لكل المقدسات والمحرمات، التي عاشت قضية فلسطين في كنفها.. لقرابة قرن ونصف من الزمان. حتى رأينا – في قرن تالٍ – كيف قُتِل جُلَّ المعاني، وانتُحِرَ بعضها، وفُسِّق بكثير منها.
فكِّرُوا تصحِّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»