سمير مرقص
تعوَّدت دائماً – قبل وقت من إجازات الأعياد الممتدة – الاستعداد في إعداد قائمة قراءات مكثفة.. ذات طابع ثقافي وأدبي وفني. وفي الحقيقة، كنت في غاية الحيرة.. ماذا أختار من موضوعات للقراءة. وبالأخير، قررت أن أعيش أياماً مع المسرح الشعري.
ويرجع الفضل – في حسم اختيار قائمة القراءة – إلى مسلسل «قهوة المحطة»؛ الذي عُرض للمرة الأولى.. خلال النصف الثاني من شهر رمضان الماضي، وأعدت مشاهدته للمرة الثانية في شهر مايو الماضي. إذ يدور المسلسل – تأليف عبد الرحيم كمال، وإخراج إسلام خيري – حول «مؤمن الصاوي».. الشاب الصعيدي المعجون بموهبة التمثيل، الذي تشكَّلت موهبته في أحد قصور الثقافة بالصعيد الجواني (طهطا؛ مسقط رأس الجد الطهطاوي مؤسس المشروع الفكري والثقافي للدولة المصرية الحديثة).
ففي هذا القصر، مثَّل «مؤمن» دور الراكب.. في مسرحية «مسافر ليل»، للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، حيث استدعى مؤلف المسلسل.. المشهد الأخير من المسرحية – التي تثبت موهبة «مؤمن» من جهة، ولإثبات كيف أن رحلة مؤمن للقاهرة.. هي التي قتلته، أو بالأحرى الأمل بأن يكون ممثلاً ذا شأن.. من جهة أخرى. إذ يقول له أستاذه، في مشهد تالٍ لمشهد التمثيل في قصر الثقافة، واعتماد لجنة التحكيم لموهبته: «سافر يا مؤمن، وما تستخسرش في الأمل حاجة». «صحيح ليس لديك إلا موهبتك.. لكن لا يوجد مناخ عادل، يخليك تنافس بمجهودك.. يبقى الأمل في موهبتك.. تنجيك وتنجح، وتنط حاجز الواقع». كما أن القاهرة باتفاقهما – مؤمن وأستاذه – هي «السحر والفن وبيته». وعلى مدى حلقات المسلسل، كان مؤمن – دوماً – حاملاً مجلد «المآسي الكبرى لشكسبير»، مستعيداً – من حين لآخر – عبارات من المسرحيات الشعرية.. التي يتضمنها المجلد: عطيل، وهاملت، ويوليوس قيصر، وروميو وجولييت، وماكبث، والملك لير،…، إلخ. كذلك أداء مشاهد من تلك المآسي الإنسانية الخالدة.
حرَّك فيَّ المسلسل.. رغبة شديدة في إعداد قائمة قراءات تتعلق بالمسرح الشعري بالتحديد.. من جانب، وإعادة قراءة مسرحيات «صلاح عبد الصبور» الشعرية (إضافة لمسافر ليل، والبديعة مأساة الحلاج، وبعد أن يموت الملك).. من جانب آخر؛ خاصة أنني اكتشفت – بعد الانتهاء من قراءة مسرحية «مسافر ليل» في أول يوم الإجازة – أن ذكرى ميلاد الشاعر الكبير الـ95، كذلك ذكرى رحيله الـ45.. سوف تحلان في العام القادم 2026.
بالطبع، أكَّد الرغبة في الارتحال إلى المسرح والشعر، رحيل سيدة المسرح «سميحة أيوب».. التي مثَلت عشرات المسرحيات؛ كان للمسرحيات الشعرية نصيب كبير منها، حيث مثَّلت: أجاممنون.. لأسخيلوس ترجمة لويس عوض، أنتيغون.. لسوفوكليس، ترجمة لويس عوض، ومجنون ليلى.. لأحمد شوقي، والإنسان الطيب ودائرة الطباشير القوقازية.. لبرتولد بريخت، وأنطونيو وكليوباترا.. لشكسبير، والفتى مهران، ووطني عكا.. لعبد الرحمن الشرقاوي، والوزير العاشق.. لفاروق جويدة، وفيدرا..لجان راسين، وقولوا لعين الشمس.. لنجيب سرور.
… في هذا السياق، ارتحلت إلى المسرح والشعر. وحاولت أن أمهِّد للقراءة المسرحية الشعرية.. باستعادة بعض القراءات المرجعية في فن المسرح.. الصادرة حديثاً. كذلك دراسات تمهيدية للمسرح الشعري لصلاح عبد الصبور.
البداية كانت باستعادة نص قديم.. قرأته مبكراً (منتصف السبعينيات)، بعنوان «المسرح وقلق البشر»؛ تضمَّن عبارة لم تزل عالقة في ذهني، خلاصتها أن: «رسالة المسرح هي تحرير الإنسان». فمحصلة كل ما يقدَّم على خشبة المسرح من أحداث، هي تجسيد للصراعات الإنسانية في كل زمان ومكان، وانعكاس للتفاعلات المجتمعية. ومن ثم فإن مسرحتها – منذ اليونان القديمة.. مروراً بالتيارات والمدارس المسرحية المتعاقبة والمتزامنة عبر العصور، وحتى رقمنتها الراهنة – يعين «البشر» على أن يتحرروا.
سيطرت عليَّ هذه الفكرة، واختبرتها فعلياً.. أولاً: من خلال تقاليد أسرية، كانت ترتاد المسرح بشكل دوري، رأيت من خلالها – مبكراً – مسرحيات مثل: معروف الإسكافي، وبلاد بره، وباب الفتوح، والجيل الطالع،…، إلخ، إضافة للحركة المسرحية الثرية، التي انطلقت عبر مسرح الطليعة.. الذي قدم العديد من الإبداعات المسرحية العالمية والمصرية. وثانياً: من خلال التزام شخصي.. لاختبار التحرر عبر الإبداع المسرحي. تلى محطة القراءة الأولى.. في السفر إلى المسرح والشعر قراءة كتاب «حياتي في الشعر» لصلاح عبد الصبور، الذي أقتطف منه ما يلي: «الشاعر إذن.. لا يعبر عن الحياة. ولكنه يخلق حياة أخرى معادلة للحياة، أكثر منها صدقاً وجمالاً، ولكنه لا بد أن يخلق؛ إذ إن وقوفه عند التعبير عن نفسه، هو عاطفية مرضية. وإذا كانت الطبيعة هي القطب الموضوعي للفن، فإنها لا حياة لها.. بغير الشاعر أو الفنان، وإذا كان الفنان هو القطب الذاتي، فإنه لا يستطيع أن يكتفي بالصرخات الذاتية السنتمنتاليه، بل لا بد له من صور موضوعية لخلق عالمه وتجسيمه، وبعث الحياة فيه».
ونواصل مع «عبد الصبور» بأن «الطبيعة لا حياة لها، بل هي بالتعبير الفلسفي لا مبالية، والفن هو الذي يعطيها المبالاة والقصد، فهي تظل شيئاً.. حتى يلمسها الفنان، فتتحول إلى صورة. إن النفس الإنسانية – في إحساساتها المختلفة – لم تكن لتدرك نفسها، لولا الفن». ولا يتوقف الأمر عند الإحساسات.. بطبيعة الحال، وإنما يمتد إلى مقاربة قيمتي العدالة والحرية، «اللتين متى تضافرتا، صنعتا القيمة الحقة في أصول المواطنة».. حسب صلاح عبد الصبور. كذلك الحديث عن «نماذج من البشر، لا تستطيع أن تحقق ذواتها، ويخشون من التجربة، فيموتون قبل أن يعرفوا الموت». وهنا يتحدث صلاح عبد الصبور عن «موت الأحياء في جبنهم وسأمهم ولا مبالاتهم». إضافة إلى كشف الواقع على حقيقته.
إن الشاعرية – وحدها – هي الأسلوب الوحيد للعطاء المسرحي الجيد.. في رأي صلاح عبد الصبور. والشاعرية هنا، لا تعني النظم بحال من الأحوال، بل إن كثيراً من المسرحيات غير المنظومة.. فيها قدر من الشاعرية، أوفر من بعض المسرحيات المنظومة.
وبعد، كان ما سبق حصاد قراءة اليوم الأول من الإجازة، ولكن هناك نصوصاً أخرى في قائمة القراءات.. التي تضمن لي سفرة مثمرة وجدانياً وعقلياً – نعرض لاحقاً لمحطاتها الإبداعية فيها – حول المسرح عموماً، والشعري منه.. خصوصاً لصلاح عبد الصبور تحديداً، الذي دأب على «حكي حكمته للناس، للأصحاب، للتاريخ».
نقلاً عن «الأهرام«