Times of Egypt

مراجعات حادة وجادة وجبت الآن على «القوميين العرب» (1-2)

Mohamed Bosila
عمار علي حسن

عمار علي حسن

بسقوط حزب البعث في سوريا، وقبله في العراق، ومع تراجع الحركة الناصرية منذ سنوات، وفي ظل وضع العالم العربي.. على محك اختبار شديد الوطأة، إثر ما ترتب على «طوفان الأقصى» من تداعيات، صار هناك سؤال عريض يطرح نفسه الآن بقوة.. عن مستقبل «العروبة» أو «فكرة القومية العربية»؛ لا سيما في ظل ظهور تناقضات في المصالح والمواقف.. بين كثير من الدول العربية، ومع تصاعد النبرة التي يرى أصحابها، أن الفكرة نفسها قد عفى عليها الزمن، وبعضها كان صخباً لا يقوم على حقائق، أو تجربة تجور على وضع وحقوق الأقليات ذات العرق غير العربي، أو تنال من هويات يعتقد أصحابها أن بلادهم لا صلة لها بالعرب، مع أن القوميين العرب أنفسهم.. اصطلحوا على أن العربية لسان، وليست عرقاً، ولا ديناً.

إن من العبث أن يترك «القوميون العرب» نضالهم الفكري والحركي – الذي امتد قرابة قرن كامل – ينتهي إلى فشل ذريع، أو ينسحب إلى الهامش، مكتفياً بمتابعة محايدة باردة.. لما يجري من تشكل للأفكار والسلوكيات السياسية في العالم العربي؛ ابتداء من تغيير اصطلاح «الوطن العربي» إلى «العالم العربي» ثم هبوطه إلى «المنطقة العربية»، وانتهاء بطرح مشروع خارجي يتمثل في «الشرق أوسط الموسع»، الذي تم رسم حدوده، وتعيين أهدافه، ليُنهي «النظام الإقليمي العربي» سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ويجعل من «العروبة» مصطلحاً تاريخياً. 

ومن العبث أيضاً، أن يعتقد القوميون أن الحل يتمثل في إعادة الزمن إلى الوراء، والتمسك بأفكار وأعمال ثبت خطؤها، ومخاصمة السياق الجديد.. الذي يفرض نفسه على العرب – شاءوا أم أبوا – والذي ساهموا هم أنفسهم بصنعه، أو استحضاره. ومن الخطيئة أن يتصور القوميون أن النضال ضد أي مشروع، يرمي إلى هضم العرب، يقوم على الاكتفاء برفض ما هو مطروح، بحناجر مدوية، وكتابات مشحونة بالعاطفة الخالية من أي منطق، أو تفكير عقلاني واقعي.. يقوم على حسابات دقيقة، لما بين أيدينا، وما لدى الآخرين، وعلى فهم ودراية كاملة بمتطلبات مرحلة لا تقبل ذهنيات وسلوكيات عفى عليها الزمن.

فمن دون ذلك سيزداد العروبيون غربة في بلادهم، وتصبح أطروحاتهم عن الأمة الواحدة – الممتدة جغرافياً من الخليج إلى المحيط، وتاريخياً من عدنان وقحطان إلى جامعة الدول العربية، وثقافياً واجتماعياً من لغة الضاد إلى أغلبية تدين بالإسلام – مجرد أضغاث أحلام، لا تلبث أن تذوب أمام شمس حارقة بحقائق مغايرة.

ومن دون ذلك ستخسر هذه البقعة الجغرافية من العالم – التي تمثل مهبط الرسالات السماوية ومهد الحضارات الإنسانية – جهد ملايين المخلصين، الذي آمنوا بفكرة.. شغلت لفيفاً من المفكرين والسياسيين، منذ عبدالرحمن الكواكبي وحتى اللحظة الراهنة، ودفع لأجلها مئات الملايين ثمناً باهظاً، لأن «الإخلاص» وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بالصواب، الذي يحوله من طاقة عاطفية هادرة.. إلى تصورات قابلة للتطبيق، وقادرة على حل المشكلات الطارئة والمزمنة، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والتخلف إلى تقدم، والقعود إلى نهوض.

هنا باتت الحاجة ملحة، والساحة مهيأة، لمراجعة شاملة للفكر القومي العربي، تستفيد من أخطاء الماضي، وتسعى إلى بناء تيار يمثل «قوميين جدداً».. عليهم – ابتداء – أن يتخلوا عن رمي كل من يخالفهم الرأي بالخيانة والعمالة، بل عليهم «التوقف والتبين».. بلغة بعض الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي.

والقوميون الجدد.. عليهم أن يؤمنوا تماماً بالحرية، ويعلموا أن غيابها ساهم في تردي أحوال النظام العربي، وساعد على ارتفاع درجة قابليته للاستعمار. كما أن عليهم أن يوجهوا جهدهم أولاً.. إلى ترتيب البيت العربي من الداخل، حجرة حجرة، أو دولة دولة، عن طريق المضي قدماً في الإصلاح.. السياسي والاقتصادي والثقافي. فالديمقراطية أولى علامات النجاح، على إمكانية استعادة العرب حيويتهم في النظام الدولي، لأنها ستجعل القرار في يد الشعوب، وليس في أيدي سلطات مستبدة، أو «ملوك طوائف جدد».. باعوا السيادة الوطنية والاستقلال، من أجل البقاء في الكراسي أطول فترة ممكنة، وفسدوا وسرقوا مقدرات الأوطان وثرواتها، ودفعوا العقول العربية النابهة إلى نزيف منظم، أو خمول مزمن.

وحيال هذا الوضع الشاذ، بات التجديد السياسي «فرض عين» أمام العرب، وإلا مات مشروعهم القومي، المتيبسة مفاصله، والمدفوع عنوة إلى معركة غير متكافئة نسبياً، مع مشروع إقليمي شرق أوسطي – وإن خفت الكلام عنه نسبياً في الوقت الراهن – فإن تنفيذه ماضٍ في طريقه المخطط له؛ من دون هوادة ولا تراجع، والأدهى والأمر.. أن هذا يُراد له أن يأتي عنوة، وفي عنت وعناء شديدين.

والتجديد السياسي يعني – في المقام الأول – مفارقة مثالب الأيديولوجيات، التي اعتنقتها تيارات قومية عربية عدة، على مدار القرن العشرين – وفي مقدمتها «الناصرية» و«البعثية» – وامتلاك رؤى وتصورات خلاقة، قادرة على التكيف مع واقع جديد؛ يختلف كلية عن ذلك الذي مثل سياقاً دولياً ومحلياً للحركة، والتفكير القومي العربي.. قبل أكثر من نصف قرن تقريباً.

ويحتاج هذا التجديد إلى أمرين أساسيينح الأول: هو رؤية يبلورها مفكرون قوميون عرب، ينتمون إلى مختلف المدارس السياسية العربية، التي يجمع بينها الإيمان بفكرة «العروبة».. وإن اختلف جدول أولوياتها حول القضايا المحلية والدولية الراهنة، وحول ترتيب سلم القيم السياسية؛ كأن يقدم البعض الحرية على المساواة – أو العكس – أو يرى آخرون أن العدالة هي القيمة الأولى بالرعاية. والثاني: هو إيجاد مجتمع عربي.. يؤمن بهذه الرؤية، ويطبقها في الواقع المعيش. فكثير من الأفكار ماتت بين أضابير الكتب، مهما كان حد اكتمالها وحيويتها، بينما نجح من حازوا قدرة على الحركة – حتى إن لم يمتلكوا رؤية سياسية وفكرية مكتملة الأركان، قوية الحجة – في أن يحشدوا وراءهم جماهير غفيرة، حملت الراية من جيل إلى جيل، وعملت على تطوير التفكير السياسي، أو ترميم إطار عام للحركة، بما يجعلها أكثر ملاءمة لواقع يتجدد باستمرار، وأكثر قدرة على جذب الجماهير إليها.

لكن حشد الجماهير يتطلب أولاً وجود فكرة.. يتبناها تيار سياسي، يسعى إلى إنقاذ الوطن العربي، بانتشال الوحدات المكونة له، وهي الدول القُطرية، من التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الذي تعيشه حالياً. فإذا تعافت الأجزاء.. أصبح بوسع «الكل العربي» أن يتفاعل على أرضية جديدة جيدة، بما يحصن الدول العربية ضد الهجمة الاستعمارية الحالية، أو على الأقل يجعلها في منعة من الضغط الخارجي القاسي، الذي يرمي أساساً إلى هضم العرب في استراتيجيات.. وضعها غيرهم، لخدمة مصالحهم.

(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)..

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *