عمار علي حسن..
لم يتروَّ سيد قطب.. وهو يطلقها صريحة زاعقة قائلاً: «العالم يعيش كله في جاهلية». ولم يرَ المسلمين استثناء من هذا.. خالطاً من الناحية الفقهية بين الفسوق والعصيان، وبين الكفر. وبذا، بدت الصغائر في نظره أكبر الكبائر، وأصبح كل شيء لا يتطابق مع المشروع السياسي.. الذي يؤمن به، خروجاً على أحكام الدين، وتم التوسع في الأمور الداخلة في باب الاعتقاد.. إلى حد كبير، بما فتح طريقاً واسعاً إلى التكفير، وفق مبدأ «الولاء والبراء».
وأفسح سيد قطب الطريق لأخيه.. محمد قطب، ليؤلف كتاباً كبير الحجم.. بعنوان «جاهلية القرن العشرين». انطلق فيه للإجابة على سؤالين محددين: هل انتهت الجاهلية في الأرض.. بمجرد بعثة النبي محمد؟ أو بمجرد انتشار الإسلام في ربوع الأرض؟ وهل الجاهلية منحصرة.. في عبادة الأصنام فقط؟ ليمضي في شرح ما يراها أسباب الجاهلية وملامحها، وانعكاساتها في تصورات البشر وسلوكهم، ونتائجها في حياتهم، وتأثيرها على مستقبلهم، ثم عدد ما يتصورها مظاهر فساد.. في السياسة والاقتصاد والأخلاق والتصرفات، وفي القيم والعلاقات الاجتماعية، ثم في الثقافة والفن والعلم.
وحاول محمد قطب.. خلع مفهوم «الجاهلية» عن سياقه الزماني والمكاني، فرأى أنه جوهر واحد.. عابر للأزمنة والأمكنة، وإن اتخذ أشكالاً وصوراً في مختلف دروب الحياة، أي أنه لا يقصره على زمننا فقط بل يرى أن له وجوداً.. في ظل الأديان والمعتقدات التي سبقت الإسلام، وكانت محمولة على رسالات سماوية. ولذا نراه يسهب في شرح ما يراها الخصائص المشتركة بين كل الجاهليات، وكيف تطورت أوضاعها، وعلاقة الدين بالحياة، والتفسير المادي للتاريخ، وكيف تحل الجاهلية في الاقتصاد، وكيف تنظر إلى الأخلاق والجنس، لينتهي إلى عبارة قاطعة تقول: «إما الله أو الانهيار».
لا يتساوق محمد قطب.. مع الرؤية التي تضع الجاهلية في مقابل العلم والحضارة، والتقدم المادي، والقيم الفكرية الاجتماعية والسياسية والإنسانية، إنما يراها «حالة نفسية، ترفض الاهتداء بهدى الله، وهي مقابل معرفة الله، والحكم بما أنزل الله.. ومن ثم فهي ليست محصورة في الجاهلية العربية، ولا في فترة من الزمن معينة، وإنما هي حالة توجد في أي وقت، وفي أي مكان، كما توجد في أي مستوى من المعرفة والحضارة والتقدم المادي، إن كانت كل هذه لا تهتدي بالهدى الرباني».
ثم يذهب محمد قطب إلى حد اعتبار «الجاهلية الحديثة»..هي «أوعر وأخبث وأعنف» من الجاهلية القديمة، ويقول: «إنها جاهلية العلم. جاهلية البحث والدراسة والنظريات. جاهلية النظم المستقرة المتعمقة في التربة. جاهلية التقدم المادي المفتون بقوته».
تأثر لاحقون.. من قادة ومُنظري «جماعة الإخوان»،بفكرة سيد قطب وأخيه محمد قطب.. حول وصف المجتمع المسلم المعاصر، بأنه «جاهلي». فقال فتحي يكن: «إن معظم الأقطار الإسلامية – إن لم نقل كلها – تحكم بأنظمة وضعية؛ هي خليط من تشريعات رومانية ويونانية وفرنسية وغيرها؛ ما يجعل العمل لهدم هذه الكيانات الجاهلية، واستئناف الحياة الإسلامية.. فريضة عين على كل مسلم، حتى تعود للإسلام القيادة والقوامة».
وتناول اثنان من مرشدي جماعة الإخوان فكرة «الجاهلية الجديدة» هذه، فقبلها حسن الهضيبي – رغم رفضه فكرة الحاكمية عند قطب – إذ يرى «الجاهلية» خروجاً على أحكام الدين، سواء بلغ هذا حد الخروج على الملة والردة.. أم لا، ويراها ضلالاً وعصياناً وفسوقاً وظلماً. أما عمر التلمساني فحاول التخفيف من وقع فكرة سيد قطب، فرأى أن تكراره للكلمة، ليس مقصوداً به تكفير المجتمع، إنما نكران الظلم والاستغلال والطغيان، والتشكيك في الدين.
ولا يمكن هنا أن نفصل هذا التصور، عن البداية التي قطعها مؤسس الجماعة حسن البنا؛ في نظرته.. التي تحاول أن تقنع أتباعه.. بأنهم هم المسلمون والمؤمنون حقاً، فها هو يقول: «الفرق بيننا وبين قومنا، أنه عندهم إيمان مخدر.. نائم في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي، يقظ في نفوس الإخوان، نحن وقومنا، نحن الأفضل والأقرب إلى الله، نحن الإسلام».
وقد تعرضت هذه الفكرة لنقد شديد.. من قبَل العديد من الفقهاء والمفسرين والدارسين، دار حول أسئلة محددة من قبيل: هل يجوز أن يقال إن المسلمين قد عادوا إلى الجاهلية؟ وما الذي دفع سيد قطب إلى تبني مفهوم «الجاهلية» لينعت به المجتمعات المعاصرة؟ وما الذي يترتب على الاعتقاد في أننا نعيش في جاهلية جديدة؟
فهناك من رأى.. أنه لا يمكن للإسلام – الذي يطلب من أتباعه.. أن يُبشروا ولا يُنفروا، ويجعل بابي الرحمة والتوبة مفتوحين طيلة الوقت – أن يقر الزعم بعيش المسلمين المحدثين والمعاصرين في جاهلية.. على غرار تلك التي كان يحياها مشركو مكة قبل الإسلام. بل هناك من رأى أن نعت العرب – قبل الإٍسلام– بالجاهلية، ينطوي على خلل منهجي.. من باب سعيه إلى تقليل – أو انتقاص أو احتقار – تاريخ الأسلاف، ونمط معيشتهم ومعارفهم، ووقوعه في تعميم خاطئ لوصف حالهم.
ويتساءل هؤلاء: كيف يوصَف العرب قبل الإسلام بأنهم بلا أخلاق، وهم الذين ابتكروا «حِلْف الفُضول».. الذي مدحه النبي محمد (ص)،وكانوا يحترمون الأشهر الحُرُم؟ وكيف هذا والرسول نفسه – وقبل الوحي والبعثة – كان يتصرف وفق خلقية ظاهرة، أعلاها الصدق والأمانة، وهو ما تجلى في قول خديجة له.. حين عاد إليها من غار حراء: «كلَّا! واللهِ ما يُخْزيك اللهُ أبداً؛ إنك لتصل الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقْري الضَّيف، وتُعين على نَوائب الحقِّ».
وفي هذا المقام، يقول الشيخ الألباني: إن تعبير «جاهلية القرن العشرين»..لا يخلو من مبالغة في وصف هذا القرن، فوجود الدين الإسلامي حالياً – وإن كان قد دخل فيه ما ليس منه – يمنعنا من القول بأن هذا القرن يمثل جاهليةً.. كالجاهلية الأُولى.
(نكمل الأسبوع المقبل)
نقلاً عن «المصري اليوم»