المشهد
أوجعتها آلام في أوصالها، وعجزت مسكنات الآلام عن تخفيف صداع، يتكرر بوتيرة منتظمة، حتى كاد أن يصبح مزمنا، فخيمت على نفسها حالة من الاكتئاب الشديد، وتاقت نفسها إلى هدوء يساعدها على قسط من الراحة.
… غير أن تصاعد ضوضاء أصوات مزعجة حولها، ظل آخذا في التصاعد، حتى أصابها صمم.. عزلها عن الجميع، وكأن كل صاحب صوت.. يجتهد في “التشويش” على أصوات غيره، للحؤول دون وصول ما يقوله شخص آخر إلى أذنيها، حتى وإن لم يصلها ما يقوله هو.
فتأكدت عزلتها عنهم جميعا، رغم تواجدهم في جوارها ومحيطها.
ولو أنهم أحسنوا الحوار، لسمعت كل ما يقولون، وتحسن حالها.
رغم حبها لهم، ورغبتها في صحبتهم، لم تجد أمامها من خيار.. إلا أن تنتبذ لنفسها مكانا قَصِيًّا، فوق هضبة عالية؛ تستشرف منها المكان، وتتأمل في الأفق الأوسع.. لعل ذلك يمكنها من استنشاق نسمة رقيقة.. في شهيق عميق، يخفف حدة الصداع الذي ألم بها.
مرة أخرى، شعرت بأوجاع أوصالها، فانتفضت من جلستها، وانتصبت واقفة.
رأت أن رفض الاستسلام لدواعي الانهيار، هو أهم مقومات البقاء؛ فمدت يدها تقطف بعض الأوراق الخضراء والزهور، من أعشاب نامية نبتت تحت قدميها.
لم يكن هدفها هو سد رمقها.. في الأمد القصير، بل التعافي وتجديد قواها المتهافتة.. استعدادا لمرحلة قادمة، تنطلق فيها طاقاتها مجددا، والاستغناء – بما أنبته الله تعالى – عن سؤال خلقه؛ حتى وإن كانوا أبناءها، الذين أخذوا منها كل ما احتاجوا إليه، أو طمعوا فيه، وضنوا عليها بالنزر اليسير.
تدافعت الأفكار في ذهنها، فاستغرقت في همومها، وامتد بصرها بعيدا يستشرف الآفاق.
… رأت في الأفق البعيد.. صحراء شاسعة، تفصلها عن الآخرين، تحفظ لها خصوصيتها وأمنها، لكنها تظل معبرا لتواصل مثمر، يحمل في طياته جائزة عطاء جزيل، مكافأة على تحمل مشقة الطريق.. وصولا إليها.
وفي الأفق القريب.. خضرة كثيفة، توفر لأبنائها حاجتهم.
حمدت الله على ما أعطاها، لكن تساؤلا مُلِحًا.. كان له دوي هائل.. في أعماق فكرها؛ هل أحسن أبناؤها الاستفادة من عطية الله، التي منحهم إياها.. عن طريق أمهم؟
كان أكثر ما يؤلمها، أن المُحدَثين من الآخرين.. أخذوا عنها، في حين أغفل أبناؤها.. الكثير مما جعلته متاحا لهم في يسر. فأخذ الآخرون بأسباب المعرفة.. وأحسنوا، فتحسنت أحوالهم، وبزوا أبناءها – الأولى بتراثها – في مختلف المجالات.
الآخرون يعايشون الواقع، ويعملون على تغييره إلى الأفضل، ويبني كل منهم.. على ما أرسى من سبقه. بينما أبناؤها يتنازعون أمرهم بينهم؛ كل منهم يرى أنه على حق، وغيره على باطل.
يمحو كل منهم ما أنجز من سبقه، ويبدأ من نقطة الصفر.. ليقيم ما يرى أنه الأفضل، فيأتي من بعدِه آخر.. ليمحو ما أقام.
كل منهم يحتكر الحقيقة لنفسه، ويحط من فكر غيره، وإنجازه، وقدره. ويرى أنه – وحده – خليفة الله في الأرض؛ وكأنه لايستعيد من التاريخ القديم، إلا مفهوم «كاهن المعبد»، سواء كان الإله الذي ينتسب إليه هو «آمون رع» – المُتصوَّر في ذلك العصر البعيد – أو الإله الواحد القهار – سبحانه وتعالى – أو ما بينهما.. حسب رؤية البشر على مر العصور.
التاريخ
لأن ما نعرفه من التاريخ، هو ذلك الذي دوّنه البشر عن حياتهم، ولم تمتد إليه يد العبث أو الفناء؛ فقيض له البقاء.. حتى وصل إلينا، فمن المنطق.. أن وجودها سبق تسجيل الوجود «المدون»؛ فلاتكتب شهادة ميلاد إلا لمولود موجود. وتوضح الآثار القديمة، أن الكتابة بدأت في عهد الملك مينا «نعرمر» – موحد القطرين – ومؤسس الكيان المصري الموحد.وبما أنه ليس هناك من آثار العصور القديمة، ما يشير إلى طول الفترة الزمنية.. بين الكينونة والتدوين.
ويعني ذلك.. أن التاريخ المسجل عنها، هو بعض من كل. فلا يعرف أحد متى خلقها الله، ولا كيف عاشت.. حتى عرّفنا أهل تلك الأزمان بها.
منذ فجر التاريخ المدون، حملت اسم امرأة.
في الزمن القديم، أطلق البعض عليها اسم «إيزيس»؛ إلهة حب الحياة والخلود، المحافِظة على كيان الأسرة، (أو «موت».. إلهة الزوجية والأمومة، فيما يعرف ب «ثلاثية الأقصر» المقدسة، التي تشمل الإله آمون.. بصفته الأب، وموت.. الأم، وخونسو.. الإبن).
وعرفها البعض الآخر.. باسم «حتحور»؛ إلهة الخير والأمومة.
وأسماها غيرهم «تاوِرت» العظيمة؛ إلهة نهر النيل الخالد والفيضان.
ومن احساسهم بالسعادة، رأوا فيها محبوبتهم «ميريت»؛ إلهة الحب.
أما في أوقات الاستنفار والشدة، فكان اسمها لديهم «سيخمت».. إلهة الحرب.
وفي غياب فكر التوحيد الديني،أجمع الناس على قدسيتها، ورأوها في سياق الحال التي يشعرون بها.. انطلاقا من (وفي حدود) وعيهم بمفهوم الخليقة، واتفقوا على رفعها إلى مصاف الآلهة.
… في الزمن القديم أيضا، أطلقوا عليها اسم «كيميت» (الذي يُنطق بطريقتين مختلفتين في اللغة القبطية؛ هما «كيمي» و «خيمي»)، وهو يعني الأرض السمراء الغنية بالطمي، العالية الخصوبة. ويتوافق هذا الإسم – رغم أنه لا يتضمن مسحةً ألوهية – مع اسمي «حتحور» و «تاورت»، من حيث مشتركات النيل والفيضان والخير والنماء.
ومع توالي القرون تغيرت الرؤى والمفاهيم، انبهر البعض – في هذا الزمن – بطلعتها، فأطلق عليها اسم «بهية»، ورأى غيرهم فيها العطاء فأسماها «خضرة»، وذهب البعض إلى التأكيد على معنى العطاء، فكان اسمها لديهم «شلبية» أو «أم الخير».
إذا كان «تعدد الأسماء دليل على شرف المسمى»، فلابد أن يكون نصيب «أم الدنيا» من الشرف كبيرًا؛ فكل من ينظر إليها.. يراها من زاوية ما؛ على نحو يتفق مع ما يشعر به نحوها، أو ما يتمناه لها، أو ما يريده بها.
وتعدد زوايا الرؤية، يدل على عديد الخصائص.
وعديد الخصائص.. دليل كثرة المكونات.
النقطة المهمة هنا، هي أن تعدد الأسماء والمكونات، يشير إلى تعدد الملامح، والخصائص، والصفات. ومن ثم اختلاف الزوايا، التي يرى منها كل واحد من أبنائها.. أمه.
وقد ترك ذلك أثره، في رؤية أبنائها لها؛ فاجتهد كل منهم.. في تكوين رؤية لها؛ انطلاقا من فهمه لطبيعتها.
وجدير بالذكر هنا، أن فهم حالة من هذا النوع، يكون – في معظم الأحيان – جزئيا.
وفي هذا الفهم الجزئي، يغلب أحد جوانب – أو مكونات – الشخصية المركبة، على الرؤية الخاصة بإنسان، أو طرف معين؛ فرآها بعضهم «فرعونية»، كانت رؤية بعض آخر منهم «قومية عربية» أو «عربية-إسلامية»، وغالى غيرهم في البعد الديني فلم يرها إلا «إسلامية»، متجاهلا بذلك مُكونًا «مسيحيا» مهما، كان مقدمة منطقية مهدت للمرحلة الإسلامية من التاريخ المصري.
وعلى الجانب الآخر، كان هناك غلو مقابل.. متحمس لـ «العصرنة» أو «الحداثة»، حاول حشر الهوية المصرية في سياق أوروبي مُتَغرِّب؛ انطلاقًا من الولع الأوروبي والغربي بالحضارة المصرية، وإعجابا بالتقدم الذي حققه الغرب الأوروبي منذ عصر النهضة، (الذي استمر بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر)، ونسبه المؤرخون الغربيون إلى تراث الحضارة اليونانية-الرومانية، غير أن الكثيرين احتفظوا بعرفانهم لإنجازات الحضارة المصرية القديمة، التي كانت أساسا لكل ما جاء بعدها.
وقد أعاق غياب الحسم بشأن قضية الهوية في مصر، أبناء أم الدنيا.. عن مواصلة البناء على النحو الذي أسسه آباؤهم، فسبقهم غيرهم.. فيما كانوا هم الأولى بإنجازه.
التحديات
الإشكالية في الرؤية الجزئية، هي أنها تعكس قصورا في التصور.. سببه العجز في استيعاب الصورة المتكاملة، وعدم استيعاب الصورة المتكاملة لدى الأطراف.. ذات الشأن في قضية معينة، يترتب عليه استمرار الجدل في القضية، وغياب أرضية مشتركة، تساعد على تفاعل إيجابي بين الأطراف، يحقق تقاربا بين الرؤى والمفاهيم.. سواء كانت مختلفة أو متنوعة؛ مما يمثل تهديدا بتفاقم حالة الاختلاف، وتحولها إلى خلاف، ثم بتصاعد الخلاف – بسبب فقدان الثقة بين الأطراف – ليصبح تناقضا، والتناقض – بطبيعته – عدائي متنافر.
في ظرف من هذا النوع، وفي غياب عوامل معالجة التناقضات، تزداد احتمالات الصراع الساخن المفتوح، بكل ما يتضمنه من مخاطر وتهديدات، وخسائر في البيئة والبشر.
ومع استمرار الجدل حول شخصية مصر، وهويتها.. دون التنبه إلى حقيقة.. أنه ليست هناك هوية أحادية البعد، وإنما كل هوية سوية.. لابد وأن تكون متعددة الجوانب. فالإنسان منا يكون أبا أو أما.. لأبنائه، وابنا أو ابنة.. لأبيه وأمه، وأخا أو أختا.. لإخوته الآخرين، وصديقا أو صديقة.. لأصدقائه، وزميلا أو زميلة.. لزملاء الدراسة أو العمل، لكننا نغفَل عن اكتشاف حقيقة أن الهوية الحية.. لابد وأن تكون متعددة الجوانب؛ فمصر التي كانت فرعونية، وعاشت مراحل رومانية ويونانية، وحتى فارسية.. هي – ذاتها – مصر المسيحية ولإسلامية ، وهي أيضا مصر العربية والإفريقية، وفوق ذلك كله هي أم الدنيا.. بما فيها، وما لها، وما عليها.
ويجب ألا نتغافل عن حقيقة أخرى مهمة، وهي أن مصر – في عظمتها التي سطرها التاريخ – كانت بوتقة، ذابت فيها كل المكونات.. التي وفدت إليها، وتمثلت المكونات الوافدة في الجسد المصري كيانا واحدا.. متعدد الخصائص والوظائف. كان التكامل طابعه.. محافظا على التمايز الإيجابي، دون تمييز مكون على آخر؛ فالمصريون في حضن أمهم سواء، على عكس ما يروّج عن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، بأنها «بوتقة مذيبة» – باعتبارها مستقبلةٍ للمهاجرين، وفي تناسٍ متعمد.. لاستئصال جنس من جذوره – فقد اقترف المستوطنون الأوروبيون الأوائل جريمة «تطهير عرقي».. ضد أبناء البلاد الأصليين، فضلا عن أن التمييز ضد المواطنين السود – الذين استجلبوا قسرا بعد اختطافهم عبيدا – مازال واقعا مستمرا، وهم الآن يطالبون بأن تكون «حياتهم مهمة»، مثل مواطنيهم من العرق الأبيض، رغم تولي سدة الرئاسة هناك مواطن أسود.
لعل كل ذلك يفيد.. في إصدار تحذير مهم، لكل من يتبنى مفهوم «أحادية الهوية»، بأنه يفرض على مصر رؤية استبعادية، تُضيِّق نطاق «المواطنة»، ومن ثم يحصرها في ركن صغير، فيقلل من شأنها، ويقزم مكانتها، ويحد من دورها. وفوق ذلك كله، يهدد وحدتها الأزلية. وعليه أن يتحمل مسؤولية قصوره في هذا الشأن.
ففي دولة مثل بريطانيا، أعرب عدد من وزراء الحكومة – وملكتها الراحلة وملكها الحالي – عن اعتزازهم بتعدد الأعراق والأديان بين مواطنيها، واعتبروا ذلك سببا للإثراء الثقافي والإنساني على المستوي القومي، وصدرت قواتين تجرم الممارسات العنصرية، استهدفت كل من يقدم عليها، حتى إن كان من ذوي الأنجلو- سكسونية. وإن كانت هناك اتهامات بـ «التمييز العنصري المؤسسي» توجه لبعض الأجهزة الحكومية – ومنها مؤسسة الشرطة – لكن هذه الظاهرة تستدعي المحاسبة القانونية.
المشكلة – إذن – ليست في المكونات ذاتها، أو في تعددها، وإنما في النظرة إلى تلك المكونات، وما تضمره نفوس أصحاب هذه النظرة.. سلبا أو إيجابا؛ فإذا كانت المكونات – على كثرتها وتنوعها – في حالة تفاعل إيجابي، ينتج عنه تكامل في البنية، ويتحقق منه ثراء في مختلف مناحي الحياة. وعادة ما يمثل التفاعل الإيجابي.. حافزا لأصحاب الرؤية الإيجابية، ورادعا في مواجهة أصحاب الرؤية السلبية.
ويلعب الفشل والقصور في فهم العلاقة بين تلك المكونات – وتوصيفها بشكل موضوعي، في سياق أفق واسع.. انطلاقا من ثوابت متفق عليها للمصلحة الوطنية – دورا سلبيا خطيرا، فهو يفتح المجال أمام احتمالات الصراع والشقاق،عن طريق تركيز الضوء على الاختلاف، وإغفال الوفاق. كما أن غياب الرؤية الوطنية يحول الاختلاف من «تنوع» إلى خلاف يتصاعد ويثير «تناقضا»، ينذر بالتحول إلى صراع.
وفي معظم الأحيان، يكون الافتقار لإرادة سياسية-قانونية حازمة، والعجز عن إدارة حالة التناقض، من أبرز نتائج غياب الرؤية الوطنية الموضوعية عن سياق الحياة العامة، والحرمان من المشاركة السياسية – سببا لتحول التناقض الصامت، إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار.. في شكل صراع محتدم لأوهى الأسباب.
من هنا بدأت أوجاع أم الدنيا. ومن هنا يبدأ العلاج.. حتى التعافي الكامل إن شاء الله.
*******
ولأن كل أسمائها المتعددة.. تؤكد أنها أنثى، لم يستقر – من صفات أم الدنيا – في الأذهان، إلا أنها أنثى، والأنثى – في فكرهم القاصر – أقل مكانة من الذكر. بل إنها – في رأيهم – يمكن أن تكون موضوعا للتملك؛ فقللوا من شأنها.. بشكل متزايد. وتنازع أبناؤها أمرهم – مرة أخرى – بشأن القوامة عليها، وظن كل منهم أنه الأحق بهذه المهمة. وتتضمن هذه الأحقية – في رأي كل منهم مجددا – ما يري كل من الأبناء أنه سلطة له، في اختيار النهج الذي يراه مناسبا للتعامل معها، انطلاقا مما يرى أنه في مصلحتها.
ونسي الجميع – في اجتهاد كل منهم بشأن الخيار الصحيح – أنهم – أشخاصا وجماعات – يعملون لفرض هيمنتهم عليها، مستندين – كل منهم على حدة – إلى فهم ضيق لمفهوم القوامة، ومتناسين أن القوامة.. واجب على كل من يتصدى لها، قبل أن تكون حقا لأي منهم، أو سلطة مستحقة.. لمن يضطلع بها، لا تقبل المنازعة فيها.
وتعلق بعضهم بفكرة الدين.. سندا لتأكيد ذلك الفكر القاصر، فسادت فكرة أن الأنثى “ناقصة عقل ودين”، وغفلوا عن قول الله سبحانه وتعالى – استنكارا لمزاعم الكفار – “ألكم الذكر وله الأنثى”؟، ثم قوله – في سورة مريم – “وليس الذكر كالأنثى”؟ وفي التساؤل الأخير.. توجيه مهم، يجهل عنه كثيرون منا، لغياب الفهم الصحيح للغة العربية، الذي لا يمكن معه صواب فهم الآيات الكريمة؛ فنفي التماثل.. لا يعني – بالضرورة – قصورا في أحد طرفي المقارنة.. دون الآخر، وإنما قصورا – في كل منهما – يفرض التكامل بينهما.. من أجل استمرار الخليقة؛ كما تقول الآية الكريمة “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”. والله – سبحانه وتعالى – يعلم نقائص المجتمع “الذكوري”.. من حيث التمييز ضد المرأة، والتقليل من شأنها.. ظلما، ويأتي ذكر ذلك في الآية الكريمة، “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم”.
وعلى الجانب الآخر، تعلق آخرون بمفهوم العلم، وتصوروا أن العلم نقيض للدين، فغفلوا عن أن الدين الحق.. يدعو إلى العلم، وأن العلم – في نهاية المطاف – يقود إلى الدين، ولكن ليس بالفهم السطحي.. الذي يتطرق إلى تفاصيل محددة بعينها، تخرُج بالأمر عن سياق المعرفة الرفيعة المستوى، إلى تسطيح يتدنى إلى درك الإسفاف.
*******
وفي سياق الصراع على الرؤى المختلفة لدى الجميع – وكلهم في هذا الشأن سواء – على “الأحقية في السلطة” بمعنى القوامة، أصابتهم غفلة.. عن أن “ولاية السلطة مسؤولية”، ولأنها مسؤولية، فإنها “غرم لا غنم”. فلم يروا الانتخابات على أنها معركة ديمقراطية.. لكسب ثقة الشعب، وإنما “غزوة صناديق”، يغتنم الفائز فيها سلطة الحكم، ولا يهم بعد ذلك.. إن كان حكم الفائز رشيدا أو سيئا. ونسوا أن تولي السلطة ينهي مرحلة المعركة الانتخابية، ويبدأ مرحلة “عقد اجتماعي” بين الحاكم والمحكوم، يلتزم فيه الحاكم حسن ممارسة السلطة، تنفيذا للتفويض الشعبي الذي حصل عليه. ويمكن للشعب – صاحب السلطة الأصلية.. حسب الفهم الصحيح للديمقراطية، أن يسحب التفويض الممنوح للحاكم، إذا لم يلتزم الحاكم بشروط التفويض وحدوده.
وفي حالات كثيرة، يتجاهل الحاكم مسؤولية أداء الواجب، وتتراجع أهمية المسؤولية.. على سلم أولويات السلطة؛ بل وصل الأمر بالبعض.. إلى تحويل “الواجب” عليه، إلى “حق” له، لاينازعه فيه أحد، واختزال مفهوم “الحق.. في حدود أداء الواجب”، ليصبح “سلطة مطلقة” على الآخرين.
… ثم اتسع هذا المفهوم في نظرهم، حتى أصبح معظم المسؤولين في بلادنا، يمارسون ما يرون أنه اختصاصهم، باعتباره “سلطة مطلقة”، ولا يتصورون أنهم يمكن أن يكونوا خاضعين للمحاسبة.. في ممارساتهم تلك.
ومن هنا تبادر إلى ذهن كل من تولى سلطة، أن هناك سندا فلسفيا لتبرير الاستئثار بالسلطة (الاستبداد)، باعتبار أنه “ضرورة لاستكمال تنفيذ سياسات”، وإن كان في الحقيقة.. “مبررا للبقاء في الحكم”. وغاب عن الأذهان مفهوم التوازن.. بين الحاجة إلى انضباط إدارة السلطة، لفرض العدالة بالقانون. وبين أهمية إطلاق الحريات، واستنهاض الهمم.. لتشجيع الإبداع، وحشد المشاركة الشعبية.. في إعادة البناء.
*******
بعد الاجتهاد لفهم كينونة وهوية “أم الدنيا”، ومعالجة قضية العلاقات بين مكونات الكيان والهوية، تظل هناك خصوصية التطرق إلى وضع المسيحيين المصريين؛ فقد جرى العرف على إطلاق صفة “القبط” أو “الأقباط” عليهم.. في غفلة عن أن هذه الكلمة التاريخية، تعني “مصر” أم الدنيا.
وأم الدنيا كل لا يتجزأ.. لا تقبل التصنيف على أساس العقيدة، وهي التي ارتقت في مدارج الإيمان.. عبر القرون.
ومن سخرية الأقدار، أن من يستعمل هذه الصفة.. للتقليل من مصرية القبطي، مقارنة بأخيه المسلم، إنما هو – في حقيقة الأمر – يؤكدها له؛ ومن ثم يفقد هؤلاء حجتهم.. في حرمان القبطي من المواطنة المتساوية.
وحتى أولئك الذين ينطلقون من “رؤية سلفية” قاصرة، ويطرحون فكرة العودة بوضع القبطي – في المجتمع والدولة – إلى مفهوم “الذمي”؛ أي اعتبار غير المسلمين “أهل ذمة”، فإنهم يغفلون أن مفهوم “أهل الذمة” يعني عقدا اجتماعيا بين المسلم وغير المسلم؛ يتضمن مسؤولية تجاه “الذمي”، بمعنى أن “القبطي.. في ذمة المسلم”، وكما تقضي قواعد التعاقد والعرف والرجولة والشهامة، فإن الإنسان يمكن أن يضحي بحياته، لحماية من هو في ذمته. ويعني ذلك إعلاءً من شأن “الذمي”. لكن ما يحاوله هؤلاء.. هو التقليل من شأن القبطي، واستبعاده.
وإذا كان هناك من يزعم الانتساب إلى “السلف الصالح”، ويريد استخدام مفهوم “الذمية” لاستبعاد أخ في الوطنية والإنسانية، والتقليل من شأنه في المجتمع، فإنه يغفل أنه يخالف السلف الصالح.. في مبدأ أساسي، مما ينفي أهليته للانتساب للسلف، فضلا عن أنه يبدي حالة من الجمود الفكري.. عند زمن بعيد مضى، ويثبت أنه لا ذمة له.
فالمسلم الحق.. رجل له ذمة، يفهم طبيعة العصر، وضروراته.
فقد أصبحت المواطنة المتساوية.. مبدأ أساسيا في المجتمع؛ فالمسيحي يدفع الضرائب، ويلتزم بكافة الواجبات الوطنية، ويقبل على أداء التجنيد في القوات المسلحة.. للدفاع عن الوطن. ومن ثم فمن حق “القبطي المسيحي” التمتع بالمواطنة المتساوية.. مع أخيه “القبطي (المصري) المسلم”.. سواء بسواء.
فهذا أيضا هو ناموس العصر.