سمير مرقص
(1)
حكى جميل.. حكي جميل عنه وعنّا وعنهم
«منصة حكينا» اليوم.. بطلها المفكر والكاتب الأستاذ «جميل مطر» – الدبلوماسي والأكاديمي والصحفي – يروي لنا سيرته.. من خلال حكايتين: الأولى حكايته مع الدبلوماسية، والتي تغطي ما يزيد على عقد ونصف من الزمان؛ بداية من منتصف الخمسينيات وحتى هزيمة 1967. والثانية: حكايته مع الصحافة.. منذ مطلع السبعينيات وإلى يومنا هذا.
ينهج الحاكي نهجاً سردياً يبدو – من حيث الإطار العام للحكايتين اللتين أصدرهما – حيث يفصل بين نشرهما أكثر من عشرين عاماً (صدرت الأولى في 2002 والثانية في 2024)، أنه يحكي حكايته مع المهنتين اللتين انخرط فيهما: العمل الدبلوماسي، والصحافة على التوالي. إلا أن القارئ المتأني للحكايتين سوف يدرك كيف أنهما – إضافة للحديث المباشر عن الدبلوماسية والصحافة في مصر – حكايتان تتجاوزان الدبلوماسية والصحافة بكثير. إنهما حكايتان عن «وادي النيل – مصر»؛ ومراحل التغير الاجتماعي التي لحقت بمصر في سبعين سنة.
لم يلجأ الأستاذ «جميل مطر» في «حكيه» إلى السرد الزمني الخطي المتدرِّج، بل حسب ما يقول إلى: «القفز الزمني». وعن هذا يكتب: «لا أعتذر عن عدم التزامي التدرُّج الزمني عند كتابة أحداث أولى حكاياتي، شئت أن أسرد الحكاية حسب توارد الخواطر وترابطها، وليس حسب ترتيب أزمنة وقوعها. وعلى كل حال لم يكن للزمن دور في صنع الحكاية، نحن الذين فعلنا في الزمن وفي أنفسنا.. ما شئنا أن نفعل، لولانا ما كان هذا الزمن، وما كانت هذه الحكاية».
وفي الحكاية الثانية.. يتبع نفس النهج، لذا يستأذن القارئ في أن يقفز «قفزة واسعة في الزمن، قفزة طولها حوالي خمسة وأربعين عاماً»، ويواصل السرد. ولا يتبع «مطر» نفس النهج مع الزمان – فقط – وإنما المكان أيضاً، إذ لم يستتبع القفز الزمني قفزاً إلى نفس المكان، وإنما إلى ما هو أكثر بكثير.
(2)
نص متعدد الأجناس الأدبية
المحصلة أن النصين: «النص» يمثل إبداعاً متعدد الأجناس الأدبية، فإضافة إلى أنه ينتمي – يقيناً – إلى جنس السيرة الذاتية، فإن القارئ سوف يجد نفسه أمام نص في: أدب الرحلات، وأنثروبولوجيا الشعوب، والتطور السياسي لمجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقراءة المقارنة لتجارب الدول في قارات آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، ورصد للسلوكيات البشرية، والديناميات المؤسسية الدبلوماسية والصحفية، وقراءة نقدية لتلك الديناميات… إلخ.
وفي كل ما تطرَّق له السارد، سوف تجد عينه على «مصر – وادي النيل». وما الدبلوماسية والصحافة – في حقيقة الأمر – إلا مساحات حركة وفعل، أتاحت له أن يعرف ويتعلم ويكتشف، ويخوض تجارب متنوعة ويغامر.. بحساب، لذا يقول: «أنتهز الفرصة لأشيد بفضل الدبلوماسية.. على تعريفي بطبائع الجنس البشري؛ على اختلاف جنسياته وأعراقه وعقائده، ولكني أشيد أيضاً بفضل الصحافة.. على تعميق معرفتي بطبيعة المصريين.. جيلاً وراء جيل، وحكامهم فرداً وراء آخر».
ولا شك أن المعرفة – التي يشير إليها السارد – قد أتاحت له أن يتفاعل جدلياً مع الحصيلة، ومن ثم يتخذ القرارات المناسبة؛ متحرراً من الأعراف والقيود.. في شتى «المسيرات» التي سار فيها، إذ اتسم بـ «قلب جسور» – حسب تعبير الأستاذ «جميل» – مكَّنه من «اختيار الحلول الصعبة والطرق الوعرة، ويفضلها على الحلول المعروضة والممكنة.. على الطرق المنبسطة والسهلة».
وظني، أن بطل سيرتنا لم يكن يستطيع أن يتميز بجسارة القلب، ما لم تكن لديه قدرة عالية على التأمل النقدي الهادئ، القائم على «البحث والتقصي والتدقيق»؛ الذي أوجزه في كلمة واحدة.. هي «الموضوعية». ومن ثم اتخاذ قرارات مصيرية فارقة. وفي هذا المقام، نقتطف مما كتبه «جميل مطر» في الحكايتين كما يلي: «الكتابة من خلال نظرة ناقدة (ومن داخل الظاهرة)، وتحديداً عن مرحلة معينة من عمري المهني (الدبلوماسي تحديداً)، مرحلة بدأت بحس قومي دافق، وبشغف وفخر.. لواقع انتمائي لمهنة درست وتخصَّصت من أجلها، وانتهى دوري (يقصد العمل الدبلوماسي) فيها بهزيمة مرة». فلقد مثلت تلك اللحظة التاريخية – ولحظات أخرى.. حسب «جميل مطر» – «لحظات فارقة في حياة مصر، وأثبتت الأيام أنها كانت فارقة أيضاً في حياتي».
ومن ثم خاض تجربة أكاديمية.. بعد الدبلوماسية، ثم «ندَهَتْه النداهة الصحفية»، إن جاز هذا الوصف. فلقد كانت الصحافة «قدراً» في أوقات مختلفة. وللقدر حضور وازن في حياة أستاذ «جميل»، إذ يقول عنه: «القدر سبقني، وخطَّط لمصير متعدد التعاريج، ومتداخل المراحل، ومتناقض القيم، ومتنافر الأشخاص، ومحشو بالمفاجآت، والعِبَر. غريب أمر القدر!».
(3)
سردية متعددة.. أبعاد القراءة
القارئ للحكايتين، سوف يجد أنه أمام تجربة ثرية بكل المعايير، تفتح له آفاقاً متنوعة في شتى المجالات. إذ سيجد فيهما القارئ «حكياً معتبراً».. حول: النخبة السياسية، والبيروقراطية، والطبقة الوسطى المدينية القاهرية، والعقل المصري والعربي، والفقر، والمناورات السياسية والإدارية، والولاء، والوقائع السياسية المصرية والخارجية، وعلاقة الصحفي بالسلطة، وعلاقة الصحافة بالسلطة، والأداء الدبلوماسي في حقبتي الخمسينيات والستينيات، والعديد من الشخصيات الهامة.. مثل هيكل، ومحمد سيد أحمد… إلخ.
وتعكس تحليلاته المتنوعة – المنتشرة في صفحات الحكي – عن «ألمعية» أكيدة، ويتجلى ذلك في: تمييزه بين الدبلوماسية التقليدية، والراديكالية (كذلك الدبلوماسي ابن الخارجية، والدبلوماسي الوافد)، وتمكنه من تحليل النماذج السياسية المعاصرة، مثل تحليله للنموذج الصيني: أُسسه النظرية التي تربط بين الفلسفة السياسية الصينية والماركسية اللينينية، وسيكولوجية الشعب واتجاهات النخبة الصينية، وشرحه لمفهومي الثورة الدائمة والثورة الثقافية، وقراءته المبكرة.. التي أبدعها حول المصاهرة السياسية في البرازيل. إضافة إلى دوره التأسيسي لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والمركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل، كذلك مجلة «وجهات نظر».. التجربة غير المسبوقة والمتفردة في الصحافة المصرية.
وبعد، أن «حكى جميل – حكي جميل» سردية شاملة متعددة أبعاد القراءة.. بطلها محب للحياة والاكتشاف، والاستخلاص لا يمكن حصره في هوية واحدة. الأستاذ «جميل مطر» – وبالرغم من أنه يقر ويعترف.. بأن صفة الكائن الاجتماعي لم تنطبق على مجمل سلوكياته – إلا أنه يقيناً.. كائن مفكر، حصد الكثير من المعرفة والمشاهدات والأفكار، وأبدع كتابة.. بيد أنه كان حريصاً دوماً على «التجوُّل والتعرُّف» والاقتراب – بطريقته – اجتماعياً، وهو أمر طبيعي مع شخصية.. هي ذات «نفس مرفهة وطبيعة متمردة».
نقلاً عن «المصري اليوم»