نيفين مسعد
حكاية بوكا.. هي حكاية مبهجة جداً، تؤكّد أن «الأماني ممكنة».. على رأي الشاعرة كوثر مصطفى التي تغنّى بكلماتها الكينج محمد منير. أما مبعث بهجتها، فهو أن الكلب بوكا، من حيث لم يكن يخطر له على بال، أصبح حديث العالَم.. لأنه نجح في تسلّق الهرم، والنزول منه.. لا يلوي على شئ.
فجأة انتشرَت صوره في كل مكان، وجلست تُطعمه سائحات مثل القمر.. هو وكل قطيعه، وهذا هو الشيء الأهم بالنسبة له. لا يهتّم بوكا كثيراً بأن تملأ صورته صفحات الجرائد العالمية، فهو لا يطالع الصحف.. لا العربية، ولا الأجنبية. الشيء الوحيد المهم بالنسبة له، هو أن تمتلئ بطنه بما لذّ وطاب.. من يد السائحة الفاتنة، التي جلَست على أحد سلالم الهرم.. تتأمّله بإعجاب وهو يأكل.
هذا الأمر يثبت أن الأهمية.. هي مسألة نسبية جداً، فهذه الشهرة العالمية التي لا تشدّ انتباه السيد بوكا، هناك ملايين البشر حفيوا، كما في لغتنا العامية، ليحققوا جزءاً يسيراً منها على المستوى المحلّي، فمنهم مَن حقّق مراده.. ومنهم مَن لم يحالفه التوفيق. أما أن حكاية الكلب بوكا، تبعث على الأمل وتطرد اليأس.. فهذا صحيح تماماً، لأنه ما كان أحد يتصوّر.. كيف يمكن لحيوان أليف، أن يصعد إلى أعلى قمّة الهرم حتى فعلها البطل بوكا. وبالتالي – ومن الآن فصاعداً – يستطيع كل منّا أن يطلق العنان لأمانيه.. مهما كانت بعيدة، بُعد المسافة بين سفح الهرم وقمّته. ويمكنه أن يشجّع نفسه على المبادرة والمغامرة والإقدام. ويقول لنفسه.. سأفعل كما فعل بوكا.
• • •
بوكا كلب بلدي عادي – أو كما يُطلِق عليه البعض كلب شارع – وعلى المستوى الشخصي، أفضّل وصف بوكا بـ «الكلب البلدي». لأن وصف كلب «الشارع»، يعطي الانطباع بأن هذا الكلب كان يعيش عيشة هانئة رغدة، ثم غدرَت به الأيام، وجار عليه الزمن، ووجد نفسه في الشارع، وهذا أمر غير حقيقي. بوكا وأمثاله من سلالة الكلاب تعيش حياتها في الشارع.. أباً عن جد. ثم إنه في الفترة الأخيرة، زاد عدد العائلات التي تلفظ كلابها في الشارع، لأسباب السفر أو ضيق ذات اليد وخلافه، وبالتالي يتغيّر حال كلاب البيوت، ويصيرون بدورهم.. كلاب شارع، وهذا يخلط الحابل بالنابل، والچيرمن شيبرد والجولدن ريتريڤر والوولف والبيجل.. إلخ بالكلاب البلدي، وهو ما لا يجوز، فالبلدي بلدي والأفرنجي أفرنجي.
إذن، هذا كان موقفي دائماً.. من تفضيل وصف «الكلب البلدي» على وصف كلب الشارع، أما وأن السيد بوكا فاجأنا، ووصل بمجهوده الذاتي إلى العالمية، فإن هذا يدفعني أكثر وأكثر.. للثبات على رأيي، ففي وصف الكلب البلدي.. تأكيد على قيمة الانتماء، ونوع السلالة، والقدرة على الإنجاز والتفوّق. وبالمناسبة فإن بعض صديقاتي العاشقات للكلاب.. يقلن إن الكلب البلدي شديد الذكاء، وها هو بوكا يثبت أن الكلب البلدي.. ليس فقط شديد الذكاء، لكن صحتّه أيضاً باسم الله ما شاء الله.. حديد.
• • •
كان البطل بوكا يطارد العصافير.. التي أخذت تشاغله، وتطير من فوق مستوى من مستويات الهرم.. إلى آخر، فكان يصعد من ورائها، ولا يشعر أنه يلهث.
يقول البعض: إنه كان يبحث عن التسلية.
ويقول البعض الآخر: إنه كان يمنّي نفسه بغداء شهي.. قوامه جوز عصافير.
لكن من باب الحرص على صورة البطل – التي ارتسمت عالمياً لبوكا – أتصوّر أنه قد يكون الأنسب.. اعتبار صعوده لقمّة الهرم، بهدف اللعب مع العصافير. رأى بوكا سائحٌ أجنبي كان يطير بباراشوت عالياً عالياً فوق سطح الهرم، فأدرك أن مشهد بوكا – وهو يصعد بعزم وإصرار درجات الهرم – هو مشهد استثنائي بكل المقاييس، فتصرّف بسرعة شديدة، ولم يفوّت اللحظة. أخرج السائح الكاميرا وضغط على زرار الڤيديو وتابع بوكا لحظةً بلحظة، وأعطى العالم كله فيلماً قصيراً عبقرياً.. لكلب بلدي ذكي وقوي ومثابر، نجح في الصعود إلى قمّة الهرم.
ولأنه لابد من إعطاء البطل اسماً.. يُعرَف به، وربما يجعله يدخل موسوعة جنيس للأرقام، أطلق عليه السائحون اسم «بوكا»، وهو اسم لطيف. بالمناسبة بعض أسماء الكلاب يكون عجباً عجاب، فهناك مثلاً مَن يسمي كلبه الجولدن: كلب.. يا سلام!!
• • •
الآن أنتقل إلى السيد بوكا، الذي راح يصعد ويصعد ويصعد.. ليلعب مع العصافير، وأخيراً جداً وصل إلى القمّة والذروة والمنتهى، وجاء نقبه على شونة. هذا التشبيه – أي «نقبه على شونة» – يتماشى مع ملابسات حكاية بوكا، فهو يشير إلى قصة مزارع ترك أرضه وراح ينقّب في باطن الأرض.. بحثاً عن الآثار الثمينة؛ فحفر وحفر وحفر.. وفي النهاية وجد أمامه شونة قمح. وهذا كان حال السيد بوكا الهُمام، الذي تسلّق الهرم حتى آخره، ووجد أنه لن يستطيع ملاعبة العصافير، ببساطة.. لأنه له ليست له أجنحة، وهي حقيقة كان يمكن أن يكتشفها عند السفح.
تُرى كيف شعر بوكا.. بعد هذه النهاية – غير المتوقعّة – لرحلة الصعود إلى القمّة؟ الإجابة.. تتوّقف على الزاوية التي ينظر منها كلٌ منّا للحكاية. وكواحدة من الناس.. تميل إلى التفاؤل بشكل عام، أقول إن بوكا ربما كان في حاجة للصعود، ليتأكّد بنفسه.. من أنه لا يستطيع الطيران، فكل شيء في هذا الزمان صار جائزاً ومحتملاً وممكناً.
والذي قرأ منّا المجموعة القصصية الرائعة لأديبنا الكبير بهاء طاهر.. «لم أعرف أن الطواويس تطير»، سيجد أن المسألة غير محسومة، لأنه إذا كان الطاووس يطير، فمن الوارد أيضاً أن يطير بوكا.. وهذا الاحتمال – وإن كان بعيداً – لكنه يبدو غير مستحيل. والأمر لا يقتصر على بهاء طاهر وحده، فها هو الكاتب الشاب محمد عبد الجليل.. يحكي لنا في مجموعته القصصية كيف أن «الدجاج أيضاً بإمكانه الطيران»، وبالتالي يكون السؤال المشروع هو التالي: يعني هي جت على الكلب؟
• • •
جائزة ألطف كلب.. أعطيها للعزيز بوكا، لكن السائح الذي صوّر الڤيديو يستحّق – من باب الإنصاف – جائزة سرعة البديهة، فبدون هذا الفيلم القصير.. ما كان أحدٌ منّا سيأخذ علماً بوجود بوكا.. حتى.. حتى وإن صعد إلى قمّة الهرم.
نقلاً عن «الشروق»