لظروف عديدة، منها العمر والتحولات الذهنية ودروس تجارب الحياة؛ يصل البعض للإقدام على تجربة الفطام التي فُرضت عليه في طفولته المبكرة، ليجد مصدراً لاستمرار وجوده بغير اعتماده على الآخر، حتى لو كان الأم، ويفرض هو التجربة على نفسه في عمره المتقدم، إذ قد يضبط ذاته مدمنة للضوء والشهرة، أو مستمرئة للشهوات والمتعة، أو ساعية للتلذذ بالحضور، والتواصل مع مشاهير وأعلام ومسئولين، كي يجري لسانه بعدها بالتباهي، أو بادعاء معرفة ما خفي عن العامة والخاصة، والزعم بشجاعة دارت في جلسات مغلقة!
وكثيراً ما يجد المرء حتمية لكي يفطم نفسه من كل ذلك ويبقى حراً طليقاً، خاصة إذا كان قد بدأ يتذوق طعم الاستغناء.
ولذلك – وعن نفسي – فقد عشت التجربتين، ولا أتذكر من تفاصيل الأولى شيئاً، لأنني كنت في عمر أقل من سنتين، أما الثانية فقد عشتها ومارستها وعانيتها، وأزعم أنني أفلحت في عبورها بدرجة كبيرة، وأضحيت ملازماً الدار والغيط الصغير الذي أفلحه بنفسي، والكتب والكتابة وعالم الحيوان! ونادراً ما أستجيب لغير ذلك، اللهم إلا الدعوة التي تلقيتها من جامعة القاهرة، خلال شهر أكتوبر الفائت، للحديث في ندوة من ندوات موسمها الثقافي، الذي يرعاه رئيسها، ويرتب برامجه ويدير ندواته الأستاذ الدكتور عبدالله التطاوي، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب، ونائب رئيس الجامعة السابق لشئون المجتمع والبيئة، والحاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وقبل كل ذلك وبعده فإنه نموذج لأستاذ الجامعة المثقف ثقافة موسوعية رصينة، متفاعلة مع طلابه ومع مجتمعه ووطنه.
ولأن الدعوة جاءت للحديث عن دور التماسك الوطني والقومي في نصر أكتوبر، ولأن الخطاب في الندوة موجه لطلاب الجامعة؛ فلم أملك سوى الاستجابة، والعكوف على إعداد المادة العلمية المناسبة، والذهاب في الموعد، والتأهب للإجابة عن كل ما قد يسأل الطلاب عنه، واعتبرت ذلك خارج نطاق عملية «الفطام» إياها، لأنه مهمة وطنية من طراز رفيع، وتذكرت ما مضى عندما كنت طالباً في آداب عين شمس، ومسؤولاً عن اللجنة الثقافية في اتحاد طلبتها، ثم رئيساً للاتحاد، وبعدها ممثلاً للدراسات العليا لاتحاد الجامعة، وتذكرت من كنا نسعى إليهم من المفكرين والمثقفين والصحفيين والفنانين، والشخصيات السياسية العامة، وكبار المسؤولين الذين كانوا يلبون دعواتنا ويتحملون جدالاتنا التي كانت تصل أحياناً لحد الرذالة!
وتذكرت اللقاء مع الرئيس أنور السادات في استراحة برج العرب، يوم الخميس 20 سبتمبر 1973، وكيف تحمَّل نقاشاً ساخناً استمر من العاشرة صباحاً إلى الثالثة بعد الظهر!
شاركت في لقاء جامعة القاهرة مع اللواء الدكتور محمد الغباري، وعقّب على حديثنا الأستاذ الدكتور محمد منصور هيبة، الأستاذ بكلية الإعلام، الذي عمل من قبل صحفياً ومراسلاً عسكرياً، وهو نموذج للأستاذ المتمكن من لغته وعلمه.
وفوجئت بأن الصالة الأرضية من القاعة الكبرى التي تحت القبة شبه ممتلئة من الطالبات والطلاب، وتدفق الحوار عن أسرار أكتوبر، وعن معاركها، وعن أثر التماسك الوطني والقومي الذي تجلى بأعلى صوره في رفض هزيمة 67، والرد المباشر بمعارك رأس العش وشدوان والجزيرة الخضرا، وإغراق المدمرة إيلات، وكيف أن التماسك الوطني كان في أرفع وأسمى الدرجات، خاصة مع تهجير سكان مدن القناة، حيث استقبلهم شعب مصر في المدن والقرى واحتضنهم.. ومن تبقى من المقاومين الأبطال في تلك المدن كانت الأرياف المحيطة حاضنة تمدهم بالزاد والزواد.. وكيف انخرط طلاب الجامعات آنذاك في فصائل خدمة الجبهة، وفي أطقم الخدمة في المستشفيات، ثم كيف أن عمال القطاع العام هم من تحمَّلوا بناء حوائط الصواريخ، وأن ذلك القطاع هو من تحمَّل الكلفة الاقتصادية للحرب من الاستنزاف إلى نهاية حرب أكتوبر.
ثم جاءت أسئلة الطالبات والطلاب وتعليقاتهم، وامتد الحوار حول الوضع الراهن وما يجري على حدودنا الشرقية، وكيف نواجه ذلك العدو الصهيوني النازي العنصري المدمر، بأن نتسلح بالعلم أولاً إلى عاشراً، وأن نتحصن بالوعي في مواجهة الشائعات والحرب الإعلامية الممنهجة بالغة الشراسة.
وكان أن جعلني هذا اللقاء أعود إلى اللياقة الذهنية المتقدة القديمة، وإلى الحنين للتواصل مع الأجيال الطالعة المتعطشة للمعرفة، والتي فيها شرائح لم تستولِ عليها غواية وسائل الاتصال إياها، ولم تستلبها الأفكار والتوجهات المتطرفة غير الوطنية.
تحية للجامعة الأم على عنايتها بموسم ثقافي يرسي الوعي الوطني في جموع أبنائها.
نقلاً عن «الأهرام«