مصطفى حجازي
أسوأ من كل ما يجري حولنا.. هذا الكم من الكذب بشأنه!.
في وسط كل الغبار.. وأتون النار الذي لا يهدأ.. تتردد أصداء في غرف التداول والسياسة وبعض من غرف أخرى للمهاترات والمؤامرات.. والأهم في غرف أهدأ لصناعة الأفكار.
وبقدر ما قد تُفزعنا وحشية ما يجري على البشر والحجر في ميادين القتال، قد تفجعنا أكثر.. بعض من الأفكار والأقوال المؤسِّسة لتلك الوحشية، والمبررة لها، والمتاجرة بها والمستثمرة فيها.
وفي تلك الأفكار والأقوال، علينا أن نقرأ واقع ما يجري بعين الحقيقة، لا بعين التمني. أن نقرر في أي صراع نحن، ومآلات النصر الواجب فيه.. دونما ترخُّص في حق أو تزيُّد فيما لا نستحق.
أصداء أفكار، رغم خفوتها، هي أعلى من هدير المدافع، وأمضى أثراً.
فبقدر ما نغرق في أحاديث الاستهلاك السياسي.. التي كفرت بها الشعوب، لأنها صنو العجز والتفريط والعدمية المدَّعاة، والتماهي في رواية عدو لا يخفى عداؤه.. بقدر ما يلزم أن ننصت لأحاديث العنصرية المؤسِّسة لهكذا عداء – وكأنه سرمدي – لكل ما هو عربي، وبعض من مداولات التجبر حول مستقبل إقليمنا، وكأنه تجمُّع لبشر مُنتقَص الإنسانية، لزمت الهيمنة عليهم واستعباد إرادتهم، وسلب مقدراتهم.
وبقدر ما قد نرى حال قوى وهنت إرادتها، بقدر ما يلزم أن نبصر حقائق قدرات كامنة في عقول عربية.. هي في شتات داخل أوطانها، أكثر منها في شتات خارج حدودها.
عقول، ليس في غيرها الأمل في خروج الحالة العربية برمتها.. من تيه لم يُكتب عليها، بقدر ما اختارته.
في تقرير لمجلة «بوليتيكو» مؤخراً.. تحدثت عن الدور الذي يلعبه مبعوثا الرئاسة الأمريكية.. أموس هوكشتاين، وبريت ما كجيرك.. في التمهيد السياسي، والتغطية السياسية للعدوان الإسرائيلي الموسع في الإقليم؛ من المجازر والتطهير العرقي في غزة، إلى حرب إبادة القرى في الجنوب اللبناني، إلى تصفية الدفاعات الجوية الإيرانية، وتصفية ميليشيات الحوثي، ناهينا عن إعادة تشكيل سوريا بقوة النار.
جاء هذا التقرير، وفقاً لشهادات مباشرة لمسؤولين حاليين في إدارة بايدن.. كفلوا حق سرية الاسم، ليقولوا شهادتهم.. بأكبر قدر من الدقة والموضوعية.
يتحدث ماكجيرك وهوكشتاين – بذات اللسان – في محافل مختلفة بين لبنان والخليج ودول أخرى بلسان المحامي المتبني للرواية الصهيونية؛ فالأول يضع كل الإثم في قتل ما يفوق على عشرين ألف طفل فلسطيني، ومثلهم من النساء والشيوخ، على حماس وفعلها «الفادح» – وفقاً لتقديرهم – في السابع من أكتوبر.. وجوهر فداحته في تحدِّي نظرية الأمن الإسرائيلي من جهة، والأخطر.. التذكير بأن لفلسطين شعباً تحت احتلال، بات من الواجب محوه من ذاكرة العالم.
ماكجيرك.. حين يُسأَل عن سبب عدم ضغط إدارة بايدن على مجرمي تل أبيب – وأولهم بي بي نتنياهو – وهو مجرم حرب بشهادة رسمية للمدعي العام للجنائية الدولية، دونما أي تجنٍّ أو تزيُّد من طرفنا – يتهدج صوته بأن حماس تراوغ ولا تلتزم في ما يُطلب منها.. في شأن الإفراج الجزئي عن أسراهم من الإسرائيليين.
كلما سُئل عن الوضع الإنساني المفجع، وعن القتل بالتجويع والتشريد، وعن الإبادة العرقية للمدينة كما للبشر في غزة، يتهدج صوته ثانية.. وهو يدافع عن مجرمه الأثير وموكله، فيؤكد – بنبرة أعلى – أنه لا وقف للقتال.. إلا عندما ترضخ حماس وتقبل بما يُعرض عليها.
بمثلها.. هوكشتاين – وهو منتسب سابق في الجيش الإسرائيلي – هو رجع صدى لمجرمي تل أبيب، وقد تحدث قاطعاً الأسبوع الفائت سراً – في إحدى العواصم العربية – بأن التدمير الممنهج للجنوب اللبناني، وللضاحية في بيروت.. مستمر حتى يعلم حزب الله أن ثمن القتال فادح، وأن يأتي للتسوية الواجبة – وفقا للقرار 1701- صاغراً مُذعناً، متخلياً عن كل ما كان في سرديته القديمة.. عن الصلاة في القدس وتحرير فلسطين وردع إسرائيل من لبنان. ويؤكد – قاطعاً – بأن التسوية قادمة في خلال أيام أو ساعات.. هذا ما نرى بعض تجلياته في خطابات رأس حزب الله الجديد نعيم قاسم، وتغير محددات هذا الخطاب.
وعلى طرف آخر – وفي معرض الحديث عن اليوم التالي في غزة، وما عسانا أن نشهده – ليس فقط لنوقف الدم، ولكن لإيجاد أفق للحياة في فلسطين المنكوبة. وفي إحدى الغرف المغلقة، إذا بالجنرال الأمريكي المتقاعد، يصر على أن تستمر الحرب.. حتى «القضاء على حماس نهائياً، ثم إيداع الفلسطينيين في غزة والضفة.. في تجمعات مسوَّرة، على أن تكون تحركاتهم خارجها بالهوية البيومترية، أي البصمة البصرية، وبإدارة إسرائيلية». ويؤكد أنه «لا حديث عن حل سياسي، حتى ضمان الأمن التام لإسرائيل، وبألا يتوهم عربي آخر بأن السابع من أكتوبر.. قابل للتكرار» كما جاءت كلمات هذا الجنرال نصاً.
وبالمناسبة، الرجل حالٌّ على كثير من المحافل السياسية والأكاديمية.. كمرجع عسكري واستخباراتي عن الشرق الأوسط الأوسع، نتيجة خدمته العسكرية في كل حروب الإقليم، بداية بالحرب على العراق وأفغانستان، وانتهاء بقيادته العليا في هذه البقعة الاستراتيجية، حتى وإن قيل إنه يعبر عن نفسه ورأيه – فهو متقاعد لا يمثل أي جهة أمريكية رسمية – فهو ليس بحديث عابر.
تنويعاً على ذات النغم.. عن وقف أنهار الدم في غزة ووقف الدمار في لبنان، يُردِف رئيس وزراء إسرائيلي سابق – ممن يتلبسون مسوح السلام والتعايش وقبول الآخر، في ظاهره من حمائم الصهيونية.. إن كان للصهيونية غير الذئاب – بأن «ما حدث في السابع من أكتوبر، رغم فداحته.. قد أثبت أننا (يعني الإسرائيليين) كنا على خطأ، حين قبلنا بتصورات نتنياهو.. بأن ندع قضية فلسطين للنسيان، لنهتم بالتطبيع مع المحيط المهيأ والمسارع للتطبيع، وليكن الاقتصاد والتنمية. والأهم، لتكن نجاة المطبعين المطيعين.. من تبعات الغضب الإسرائيلي، والعيش بأمان.. خيراً من المواجهة والدمار.. على يد جبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية. ولننسَ كل ما له علاقة بفلسطين وأهل فلسطين»… «ثبت لنا أننا كنا نحيا وهماً كبيراً، فهناك سبعة ملايين فلسطيني يكافئون عدد سكان إسرائيل من اليهود، لم نستطع أن نتوَّهم غيابهم أو ندعيه أو نحققه». وما زال الكلام لذات المسؤول الإسرائيلي.. كان هذا رجع صدى بعض من حمائم الصهيونية، وفكرته الأساس.. وهي السلام رضوخاً أو الدمار.
أميرة أورون – سفيرة إسرائيل في القاهرة حتى سبتمبر 2024 – تحدثت في بودكاست لها باللغة العبرية في تل أبيب.. عن تحليل الموقف من وجهة نظرها كسفيرة لإسرائيل في مصر، قادرة على أن ترصد ما يجري منذ السابع من أكتوبر.. من خلال ما تراه وما تتفاعل معه وما تنفذ إليه. كانت الدبلوماسية الإسرائيلية.. قاطعة في الحديث عن مصر وقدرتها. قالت بنبرة الواثق، وبلا تردد: «مصر هي الأمة الوحيدة في الشرق الأوسط، القادرة على إنتاج الأفكار، وعلى ملكية القوة الصلبة والناعمة. مصر هي الرقم الأساسي في معادلة الشرق الأوسط سلاماً وأمناً، وليبقَ ما عداها دواعم ومحفزات لأمن الإقليم وسلامه».. ثم أضافت أنها – «ورغم وجود سفارة لإسرائيل في القاهرة منذ عقود – لا يُعد سفير إسرائيل شخصاً مرحباً به أو مقبولاً شعبياً أو حتى إعلامياً، وأوضحت كيف أنها – شأنها شأن من سبقوها – «منبوذة بالكلية في الإعلام المصري بكل أطيافه موجهاً كان أو غير موجه».. نقلت قلقها للمجتمع الإسرائيلي.. وهي ترصد المنطق الحاكم في المجتمع المصري، وهو ينفض غبار السياسة الاستهلاكية.. عند الحديث عن الحل العادل للقضية الفلسطينية، فيعود وبحسم إلى الحديث عن 1948 لا عن 1967.. واستشهدت بمقالات تُكتب، وبأحاديث للأزهر وشيخه.. عن دحض أي حقوق تاريخية لليهود في فلسطين، وعن إثبات جرمهم واحتلالهم.
مسؤول عربي مرموق – في أعلى هرم السياسة في العالم العربي – يقول لي: «نحن في زمن الحروب الصليبية»!
ما نحن بصدده.. من مجازر إسرائيلية في الإقليم، ليس إلا تجلٍّ جديد للعداء النفسي السافر في الغرب.. لكل ما هو عربي، وثأر لا يهدأ تجاهه.
مع تحري كل الرزانة والدبلوماسية، لم تكن هناك كلمات أدق وصفاً للسياق القيمي والأخلاقي.. قبل السياسي والعسكري، إلا كون ستر الأخلاق والقيم.. الأخير الذي سقط عن عورة الغرب؛ بظلاله الأوروبية والأمريكية، وتوابعه من غير الغربيين، إلا استدعاء عنوان إحدى الجرائم الكبرى.. الموشاة بستار الدين في التاريخ – والدين منها بريء – كالحروب الصليبية. وأنا أتفق معه جملة وتفصيلاً.
وأخيراً – ومن داخل البيت الفلسطيني، ومع كثير من أصداء الفُرقة والشقاق وشبق السلطة – تأتي أصوات منهكة.. من رعيل أوسلو – مجسدة في بعض من رجال السلطة الفلسطينية السابقين – تتحدث عن تاريخية اللحظة.. للوصول لحل الدولتين.
ولكن لأن المنطق مُنهَك، يأتي نص الكلام هكذا: «حل الدولتين هو الحل الوحيد الممكن.. ولكنه غير قابل للتحقيق»!!
وحقيقة التضارب.. هي في حقيقة استحالة حديث الدولتين، ولكن قبلها.. في حقيقة وهن الإرادة، وإدمان الاستهلاك السياسي. كما يأتي لعن السابع من أكتوبر، لأنه أضاع غزة، وشرَّد أهلها، وإن يأتي – في ذات الجملة – الإقرار بأنه.. لولا السابع من أكتوبر، لدُفِنَت القضية إلى الأبد.
تأتي إدانة مسؤولي السلطة الفلسطينية في رام الله – على كونهم قد تجاوزهم الزمن – وعياً وحيلة.. إرادة وفعلاً.. حتى بليت قضية فلسطين بين أيديهم وهم يشيخون.
كما تأتي إدانة مسؤولي حماس.. على رعونة فجَّرت القضية..
كما تأتي أصداء عقل فلسطيني – مسجون ومشتت – خافتة كشأن أصداء العقل العربي.. في بقاع أخرى.
كانت تلك بعض من أصداء أفكار.. قادرة – لو أنصتنا إليها – على المساعدة في أن نعي بجلاء.. منطلقات الصراع في المنطقة ومآلاته.. أن نعي الفكرة الأساس في الخصومة، وأن نستشرف آفاق أي مهادنة أو تعايش، وقبلها أن نستشرف تعريفاً دقيقاً للنصر.
فقبل أن يكون ما يجري في ساحات الحرب.. هو مقارعة بالمسيَّرات وراجمات الصواريخ وقوة النيران، يبقى – في حقيقته – مجالدة بين أفكار وإرادات.. ويبقى الحضور والغياب لأي أطراف صراع.. في حضور إرادته في الحياة والهيمنة.
ويبقى أي أمل في نصر.. مرتهناً بعلو الفكرة المؤسِّسة، والقدرة على الانتصار لها.. عادلة كانت أم جائرة. تلك الفكرة.. جاءت منطقاً أم تدليساً..
إن «قوة الفكرة»، هي ما تعطي «فكرة القوة».. كل معنى وجدوى وأثر. فبغير «الفكرة» لا توجد – ولن توجد – «القوة».
فَكِّرُوا تَصحُّوا.
نقلاً عن «المصري اليوم«