Times of Egypt

القضاء والحريات في العالم العربي 

Mohamed Bosila
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح 

إحدى أهم السمات الدستورية في الدولة/ الأمة، والأنظمة الليبرالية التمثيلية، تتمثل في الفصل بين السلطات؛ وفق النموذج الرئاسي الأمريكي، والبرلماني البريطاني، وشبه الرئاسي الفرنسي. بعض هذه النظم الدستورية، تأخذ بالفصل والتمايز بينها وبين بعضها، مع التعاون في حدود نسبية.. بين السلطات الثلاث التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. 

يرمي الفصل والتمايز بين السلطات.. إلى ضمان الرقابات المتبادلة، وأيضاً توزيع القوة.. للحيلولة فيما بينها، حتى لا تتحول أي منها إلى سلطة مطلقة على الأخرى، وتؤدي إلى الطغيان. من ثم استقلال كل سلطة عن الأخرى، في ظل إقرار الدساتير للحريات العامة والشخصية، هو أبرز تنظيم لها، في ظل ضمانات دستورية وتشريعية تحول دون تغوُّل أي منها، ولاسيما السلطة التنفيذية. من ثم يُعد استقلال القضاء والقضاة.. الضمانة الكبرى لحماية الحريات العامة والشخصية في الحياة الحديثة والمعاصرة، سواء في الدساتير المكتوبة، أو المبادئ الدستورية غير المكتوبة، والتي عكست تطور الحريات جميعها، وتقاليد النظام البرلماني كما في النظام البريطاني. 

لعب القضاء والجماعات القضائية في الدول الديمقراطية التمثيلية.. دوراً مركزياً؛ في حماية ودعم الحريات كافة، وفي فرض رقابات على أعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية.. سواء من خلال الرقابة الدستورية على القوانين، واللوائح، والقرارات الإدارية في دول النظام القضائي الواحد، أو نظم تعدد جهتي القضاء . على صعيد القضاء الإداري – في الدول التي تأخذ بتعدد جهتي القضاء العادي والإداري – يمارس قضاء مجلس الدولة.. رقابة على أعمال السلطة التنفيذية؛ سواء محاكم القضاء الإداري، أو المحاكم الإدارية العليا على النسق الفرنسي، التي تفحص مدى مشروعية اللوائح والقرارات الإدارية.  

كرست أحكام المحاكم الإدارية العليا – في التقليد القانوني اللاتيني والفرنسي – تراثاً ممتداً ومستمراً.. في الدفاع عن المشروعية، على نحو أدى إلى إنتاج منظومة من المبادئ القضائية العامة، التي تحمي حقوق المواطنين، وحرياتهم العامة، والشخصية.  

لا شك أن هذه الأدوار المهمة ترسخت.. في النظم الأنجلوساكسونية، وفي التقاليد الألمانية. التراث التاريخي المستمر – من المبادئ العامة القانونية والقضائية، وفق النموذج الفرنسي – تم استلهام بعضه في الأنظمة القضائية.. التي أخذت بالمرجعية القضائية الفرنسية، ومنها القضاء الإداري المصري، وبعضها حاول الملاءمة بين أوضاع تركيبات القوة في وضعية السلطات الثلاث، وبين التقاليد القانونية والقضائية الفرنسية مع بعض من التعديلات. 

في النظامين الأمريكي والبريطاني – على التمايز بينهما – كانت مسألة الحريات العامة والشخصية أساسية.. في تقاليد كلا النظامين، والمبادئ الدستورية العامة – المحكمة العليا الأمريكية – والمحاكم البريطانية، على نحو ساهم في حماية الحريات كافة، وأدى إلى تطويرها.. مع تحولات كلتا الدولتين والمجتمعين على كافة المستويات الاقتصادية، والتكنولوجية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، واتساع فضاءات الحريات كافة، مع هذه التطورات فائقة السرعة، والتطور المفرط. 

من هنا كان استقلال القضاء – والجماعات القضائية المستقلة ذات التقاليد الراسخة في حماية الحريات – أحد أبرز محركات تطور هذه المجتمعات في مجال حريات الرأي والتعبير، والبحث الأكاديمي والعلمي، وفي تشكيل الأحزاب السياسية، ودعم الحريات المدنية، والمبادرات الخاصة والجماعية، بل وفي المساهمة في الكشف عن الأعطاب التشريعية.. التي يكشف الواقع الموضوعي عن مثالبها، وعدم فاعليتها، والأهم تحفيز الإبداع للأفراد والجامعات ومراكز البحث العلمي كافة. 

استقلال القضاء والقضاة – من خلال قوانين تنظيم السلطة القضائية، واستقلالية القضاة – هو أبرز سمات الديمقراطيات التمثيلية.. فى الدول الأكثر تقدماً، وذلك لحماية الحريات كافة. ويكرس الاستقلال القضائي.. مفهوم أمن المواطن، إزاء أي انتهاكات يمكن أن يمارسها بعضهم إزاء الآخرين، أو من السلطات السياسية.. التي قد تحاول الخروج على الصراط القانوني السليم، أو عبر تأويلاتها وتبريراتها لأي خروج على المبادئ الدستورية والقانونية العامة.. التي استقر عليها القضاء. 

في دول ما بعد الاستقلال عن الكولونياليات الغربية في جنوب العالم، تم الأخذ بالقوانين الغربية للمستعمر – الفرنسي والإيطالي والبريطاني والبرتغالي والإسباني… إلخ – ومعها الدساتير التي سادت معظم هذه الدول، مع تعديلات عديدة، ومن بين هذه التعديلات هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. 

في بعض الدول ما بعد الكولونيالية، كانت السلطات الثلاث فى المجتمعات الانقسامية – القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية – تعكس (في بعض تشكيلاتها) انتماءات مواقع القوة في السلطة التنفيذية.. من خلال نظام الزبائنية القبلية والعشائرية والعرقية والمذهبية، أو بعض الانتماءات الأيديولوجية للنظام، وهو ما أثر سلباً على استقلالية سلطتي التشريع والقضاء، ومن ثم على إنتاج غالب التشريعات، وبعض اتجاهات الأحكام القضائية – خاصة أن بعض النظم القضائية العربية ما بعد الاستقلال – التي لم تكن لديها تقاليد قانونية عريقة على النسق الأوروبي، وأيضاً جماعات قضائية ذات تكوين قانوني بالغ التميز، وممارسات رسخت استقلال القضاة والقضاء، على نحو ما قامت به جماعة القضاة والقضاء في المثال التاريخي المصري.. منذ مطالع النهضة الحديثة، وأيضاً في ظل المرحلة شبه الليبرالية، وبعض فوائضها في ظل نظام يوليو. 

قام القضاة المصريون.. بالدفاع عن استقلاليتهم، وتطويع القوانين الحديثة مع الواقع الاجتماعي المصري المتغير، وأيضاً مع القيم الاجتماعية السائدة والمتحولة. الأهم أن القضاء – في المرحلة شبه الليبرالية – شكَّل المركز الرئيس في حماية الحريات العامة والشخصية.. في مواجهة أي تغولات من السلطة التنفيذية، وأجهزتها الأمنية والبيروقراطية.. في ظل انقسامات اجتماعية تكرس قانون المكانة والقوة والنفوذ، وقوانين تحمل مصالح القوة الطبقية المسيطرة سياسياً واقتصادياً. 

لا شك أن عدم استقلالية السلطة القضائية.. في بعض البلدان العربية، يؤدي إلى تأثيرات سلبية على ضمانات الحريات العامة والشخصية.. في ظل الاستقرار السياسي. إن أي محاولات للخروج من أوضاع التخلف التاريخي العربي المركب، تبدأ من خلال تعزيز استقلال القضاء والقضاة، كضمانة للحريات، والإبداع الفردي والجماعي في المجتمعات العربية. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.