مصطفى كامل السيد..
أعترف مقدمًا.. بأني مدين بفكرة هذا المقال للأستاذة الدكتورة ليزا أندرسن ــ الرئيس الأسبق للجامعة الأمريكية بالقاهرة ــ عندما ألقت.. في أثناء زيارة لها للقاهرة منذ سنوات، محاضرة شرحت فيها هذه الفكرة.. التي لم أستوعبها تمامًا وقتها. كانت حجتها الأساسية.. أن قادة الدول – منذ بداية القرن الحادي والعشرين – أصبحوا يتعاملون مع دولهم.. ليس على أساس ما يحقق مصلحة عامة لكل المواطنين، ولكن على أنها مجال للكسب الخاص لهم. وبدلًا من أن يسترشدوا بما هو نافع للأغلبية الساحقة من مواطنيهم، فهم ينشغلون – معظم الوقت – بما يضاعف من مصالحهم.. هم وأسرهم، في أثناء مزاولتهم لمهامهم على قمة السلطة في بلادهم، وحتى بعد أن يتركوا مقاعد الحكم.
فكرت وقتها.. أن فيما تقوله بعض المبالغة، ولكن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير هذا العام، وتصريحاته وأفعاله.. ذكَّرتني بما قالته بروفيسور أندرسن منذ سنوات، ووجدت صدى واسعًا لفكرتها هذه.. ليس في حالة ترامب وحدها، ولكن في حالات عديدة من الدول، في عالمنا العربي وخارجه.
حكام الدول في الماضي وفي الحاضر
وقبل أن أشرح أبعاد هذه الظاهرة، فمن المهم توضيح أن أندرسن.. لم تقصد إطلاقًا أن قادة الدول قبل القرن الحادي والعشرين، لم يكونوا يلتفتون لمصالحهم الخاصة؛ فسيرة الملوك ورؤساء الجمهوريات – في الغرب وفي الشرق، في الماضي والحاضر – توضح أنهم.. لم يكونوا يعيشون في ضائقة من العيش، وإنما كانوا يرفلون في عيش رغيد؛ فمن سكنوا القصور الفخمة في بكينجهام وفرساي، ودونينج ستريت والإليزيه والبيت الأبيض، كانوا ينعمون بامتيازات واسعة، ولكنهم اعتبروا هذه الامتيازات أمرًا مألوفًا؛ فهي المقابل – من وجهة نظرهم – للمسؤوليات الضخمة التي يتولونها.. لتحقيق الاستقرار في مجتمعاتهم، والدفاع عنها، وتوفير الظروف.. حتى يعيش مواطنوهم في أوضاع كريمة.. أو هكذا كانوا يتصورون. وكانوا يعتبرون أن هذه الامتيازات ستستمر لهم، عندما يغادرون مناصبهم، ويرثها أفراد أسرهم في النظم الملكية، أو يتمتعون بمعاش كريم عند تقاعدهم في حالة رؤساء الجمهوريات والحكومات البرلمانية، ولذلك لم يكن يقلقهم أن يزاولوا مناصبهم.. دون أن يفكروا في هذه المسائل، بل لم يخطر لهم على بال.. أن يخصصوا جانبًا من وقتهم، ليبحثوا كيفية مضاعفة ثرواتهم الخاصة، وهم يمارسون مسؤولياتهم السامية. في رأي أندرسن لم يعد هذا هو الحال، على الأقل وفق ما لاحظته.. وهي تتأمل أحوال السياسة في العالم المعاصر بشماله وجنوبه.
صورة متطرفة من اقتصاد السوق
وجدت في هذه الملاحظة، تعبيرًا متطرفًا.. عما كان يقصده المؤرخ الاقتصادي المجري المولد كارل بولانيي، الذي اعتبر أن اقتصاد السوق ذاتي التنظيم.. هو أحد أعمدة العالم الحديث. وهذا صحيح، فالدول الأولى في السير على طريق الحداثة.. هي التي اتبعت اقتصاد السوق؛ مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ولحقت بها ألمانيا وإيطاليا واليابان.. في القرن التاسع عشر. وعندما حاولت الدول الاشتراكية – بدءًا بالاتحاد السوفيتي – الخروج عن قواعد اقتصاد السوق؛ بالأخذ بالملكية العامة لأدوات الإنتاج، وانتهاج التخطيط المركزي، فإنها عادت منذ تسعينيات القرن العشرين.. إلى الأخذ به، فتخلصت من الملكية العامة، وتركت السلع والخدمات.. تحددها قوى الطلب والعرض، أو هكذا تقول كتب الاقتصاد.
ولكن المثير – فيما كتبه بولانيي – أن اقتصاد السوق لا يمكن أن يستمر.. إلا إذا صاحبه مجتمع السوق؛ فلا يكفي أن تخضع السلع من مأكل وملبس ومشرب ومسكن وأدوات انتقال.. لنظام السعر في اقتصاد السوق – وبعبارة أخرى، لا يكفي أن تصبح كل هذه البضائع.. موضع التجارة، ولكن يجب أن تخضع الأراضي وقوة العمل والنقود للتجارة أيضًا.. أي يجب تسليعها – وهكذا يصبح من الضروري أن يمكن شراء الأراضي والمساكن وقوة العمل والنقود.. وبيعها في السوق، أو من خلال الائتمان في البنوك.
ونظرًا لأن اقتصاد السوق هذا له مزاياه، فهو يسهل من تداول السلع، ويوفر لمن لديه النقود.. حرية اختيار ما يشتريه، ويمكنه من الادخار والاستثمار، فإن آلية السوق هذه.. تقهر كل آليات التداول الأخرى؛ من مقايضة أو إدارة حكومية أو حتى التخطيط المركزي. ولذلك ظهرت السوق السوداء في الدول الاشتراكية سابقًا، وفي الدول التي تلجأ إلى تحديد حصص.. لما يمكن للمواطنين شراؤه أو بيعه؛ كما نعرف في مصر.. في ظل بطاقات التموين أو التوريد الإجباري لبعض المحاصيل.
لكن اقتصاد السوق لا يقف عند هذا الحد. تتحول كل الأنشطة إلى سلع: التعليم والرعاية الصحية والفنون والرياضة، بل وحتى أجساد البشر.. ذكورًا أو إناثًا، بالغين أو قاصرين. وهكذا تصبح السيادة في الاقتصاد والمجتمع.. هي لآليات السوق. بل امتدت آليات السوق إلى عالم السياسة. فهل يمكن لمرشح – في النظم النيابية – أن يتمكن من إيصال صوته أو اسمه للمواطنين.. دون أن يملك من المال ما يسمح له بالإنفاق على حملات انتخابية؟ والقراء يعرفون عن مئات الملايين من الدولارات.. التي ينفقها مرشحو الرئاسة في الانتخابات الأمريكية، وأن تمويل الحملات الانتخابية يأتي – حتى ـ في إطار بعض الضوابط.. التي تتفاوت فعاليتها من بلد لآخر.. من جانب أصحاب المصالح.
رؤساء الدول كرؤساء شركات
لم يتحدث بولانيي عن امتداد اقتصاد السوق.. إلى عالم السياسة، ولكن هذا الامتداد.. هو النتيجة الحتمية لما أقر به؛ من ميل آلية السوق لطرد كل آليات الحصول على الموارد قبلها، ومن ضرورة ارتباط اقتصاد السوق.. بمجتمع السوق. وهكذا أصبح رؤساء الدول والحكومات يديرون دولهم.. كما لو كانت شركات خاصة مملوكة لهم، أو كما لو أنهم رؤساء مجالس إدارة شركات.. وليسوا رؤساء دول؛ فينشغلون بتعزيز مصالحهم المالية الخاصة.. خلافًا للقانون المرعي في بلادهم، وفي أثناء توليهم لمناصبهم. ويتخذ ذلك صورًا عديدة، تكشف عنها متابعة المحاكمات التي جرت لبعضهم، وعاقبتهم على هذه الانتهاكات التي لم تتوقف، بل وأخذت أبعادًا جديدة.. مع تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة في الولايات المتحدة؛ منها مثلًا تلقيهم رشاوى من رؤساء دول آخرين.. لم يكشفوا عنها، أو من أصحاب الثروات.. خلافًا لما قد يكون مسموحًا به لتمويل الحملات الانتخابية.
حالة نيكولا ساركوزي – رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق – الذي أدانته المحاكم الفرنسية مؤخرًا.. لتلقيه ومعاونيه رشاوى من معمر القذافي.. القائد الليبي الذي أطاحت به الثورة الليبية في 2011.. هي مثال على ذلك، وأيضًا حالات رئيسة سابقة للجمهورية في كوريا الجنوبية، بل والمستشار الألماني الأسبق هلموت كول. ومن هذه الممارسات استغلال النفوذ للتكسب.. على حساب المنصب؛ كما كشفت عنه قضية تمويل القصور الرئاسية.. التي أُدين فيها الرئيس الأسبق حسني مبارك، ومنها تضخم ثروة رئيس الدولة.. في أثناء مزاولته لمنصبه؛ عندما تتسع أنشطة شركة يملكها، ويتوقف رسميًا عن إدارتها.. ولكن ارتباطها باسمه، يجعل من يريدون التقرب منه يعهدون لها بأعمال معينة؛ كما في حالة مؤسسة ترامب – التي زادت أنشطتها أثناء فترة رئاسته الأولى، ومنها كذلك أن يستفيد أبناء الرئيس وأفراد عائلته من وجوده في منصبه، ويبرمون صفقات يجاملهم فيها آخرون.. أملًا في توثيق العلاقة مع شخص الرئيس – أو يكون أطراف هذه الصفقات أسرًا حاكمة، أو عائلات متنفذة.. في دول تربطها بهذا الرئيس علاقات قوية، وهذا هو حال أبناء الرئيس الأمريكي.. الذين تعاقدوا على إقامة أبراج تحمل اسم الرئيس الأمريكي، وهي امتداد لمؤسسته، أو ملاعب جولف.. بالارتباط بأنشطة مؤسسته في هذا المجال. بل يصرح الرئيس بعزمه على تولي أنشطة عقارية – بديلًا عن دولته ومن خلال مؤسسته – في دول أخرى، مثل إعلان الرئيس الأمريكي رغبته هو شخصيًا.. في تحويل غزة إلى منتجع سياحي أو منطقة حرة؛ على حساب التخلص من سكانها.
وبعيدًا عن السعي لتعظيم الثروة مباشرة، أو من خلال أفراد أسرة الرئيس، يتصرف الرئيس – في علاقاته الدولية – كما لو كان بالفعل.. رئيس شركة، لا يبالي حتى بأي اعتبارات قانونية، طالما يحقق ذلك ما يتصور أنه مصلحة اقتصادية لدولته؛ كإعلان الرئيس الأمريكي رغبته في شراء إقليم جرينلاند.. التابع للدنمارك، واقتراحه مرور السفن الأمريكية بلا مقابل.. في ممرات مائية دولية ليست تابعة لدولته، أو ممارسة الضغوط على الحكومة الأوكرانية.. للتنازل عن نصف إيرادات استغلال مواردها المعدنية.. لحساب مؤسسة أمريكية تنشأ لهذا الغرض.
بل يبلغ تقمص الرئيس شخصية رئيس الشركة.. حدًا يجعله يتصور المصلحة القومية لدولته، ليس في تنمية العلاقات الودية مع الدول الأخرى، أو الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، أو نشر قيمها على الصعيد العالمي، وإنما يتصور مصلحة بلاده في إبرام صفقات مالية، وتصبح أولويات السياسة الخارجية – مع تلك الدول التي يمكن أن يبرم معها صفقات سهلة – اعتمادًا على فائض القوة الذي تملكه دولته.. إزاء هذه الدول الأخرى. وهكذا، فبدلًا من أن تكون الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الأمريكي لدول حليفة تاريخيًا للولايات المتحدة، فإنه يتوجه لدول ذات فوائض مالية ضخمة.. تتجاوز احتياجات إنفاقها الجاري، تود قياداتها توثيق العلاقات معه شخصيًا؛ تصورًا منها أنه سيكون أول من يهب دفاعًا عنها.. في مواجهة خصم إقليمي، رغم أن احتمالات الصدام مع هذا الخصم الإقليمي غير قائمة، ورغم أن سجل الولايات المتحدة في الدفاع عن حلفائها – في مواجهة ثورات شعبية – هو بالتخلي عنهم، كما شهد على ذلك نكوصها عن الوقوف إلى جانب حكومات حليفة لها في فيتنام، وفي إيران بعد الثورة الإسلامية، وأخيرًا في أفغانستان.
الشفافية والمساءلة هما المخرج
طبعًا إدارة الدولة – كما لو كانت شركة خاصة – هي ممارسة شاعت في العقود الأخيرة، ربما يعود سبب انتشارها.. إلى هيمنة الفكر النيوليبرالي على سياسات الدول؛ إما اعتقادًا – من خبرائها – بأن هذا الفكر هو وحده الذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي والرخاء، أو لأن هذا الفكر هو ما تدعو له المؤسسات المالية الدولية.. التي تمجد اقتصاد السوق وآليات العرض والطلب؛ باعتبارها الحل السحري لكل المشاكل، ولكن يفتح غياب الشفافية والمساءلة لقادة الدول وزعمائها السياسيين – كذلك – المجال واسعًا للانخراط في هذه الممارسات، التي قد تحقق المصالح الضيقة لهؤلاء القادة، ولكنها تبعدهم عن إدراك الفارق الجوهري.. بين الدولة ككيان لا تُقاس مصلحته بالكسب المادي المباشر، ولكن بالاضطلاع بمهام.. مثل توفير التعليم والرعاية الصحية والتمتع بالحقوق الأساسية، التي من شأنها تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وارتقاء الدولة للمكانة المناسبة في المجتمع العالمي، وكل ذلك لا يُقاس بالنقود، وهي كل ما يهتم به رئيس شركة ضيق الأفق.
نقلاً عن «الشروق»
ة