Times of Egypt

روايح الزمن الجميل 

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد 

يقول الشاعر الرائع سيد حجاب – في تتر المقدمة لمسلسل هوانم جاردن سيتي – «يا روايح الزمن الجميل هفهفي، وخدينا للماضي وسحره الخفي.. ورفرفي يا قلوبنا فوق اللي فات، وبصّي للي جاي وانتِ بترفرفي». وقبل أن تنتهي كلمات التتر وتبدأ حلقة جديدة من حلقات المسلسل الممتع، يكون المكان قد امتلأ برائحة من روايح الزمن الجميل. تتبدّى لنا الهوانم: شهرت، وخديجة، وأمينة.. وكل هوانم الطبقة الأرستقراطية؛ بشياكتهن وعطورهن وقصورهن وعصرهن.. الذي وإن لم نعش فيه، تسرَّب إلينا الفضول لاستكشافه والنفاذ إلى داخله.. من روايات الأهل عنه، ولم لا ونحن بضعة منهم؟ 

*** 

ظهرَت لي فجأة على صفحة الفيسبوك زجاجة العطر القدييييم Secret ، فخطفت قلبي.. قبل أن تخطف عقلي. في أعلى الزجاجة، كانت هناك فقرة.. تعلن عن العطر وتروّج له، وهي – على الأرجح – موجهّة لأبناء جيلي.. أو القريبين منه، فمَن في عام 2024، سيشتري عطراً نسائياً.. من إنتاج الشبراويشي؟  

بمجرّد لفظ اسم الشبراويشي، اجتاحتني سعادة غامرة.. غير مبرّرة. وهكذا، فحين جاء السؤال التالي.. في أول سطر من سطور الإعلان: مين لسه فاكر عطر سيكريه؟ كدت أتطوّع وأرفع يدي وأردّ: أنا، وكأنني عدت تلميذة شاطرة.. في المرحلة الإعدادية. أخذتني زجاجة  Secretإلى زمنها الجميل، كما أخذَت روايح سيد حجاب مشاهدي الهوانم.. إلى حي جاردن سيتي؛ بمبانيه المتحفية، وسفاراته، ومكتبة أحمد عطية.. التي كانت مصدر بهجتنا الغامرة في السبعينيات، ومدرستي الحبيبة.. التي كان يقف أمامها – كل يوم – الموسيقار مجدي الحسيني.. في انتظار خروج صديقتي فلانة الفلانية، وكورنيش النيل وهواه العليل، والنادي اليوناني في أيام العزّ… ياااااه.. كانت أياماً بطعم السُكّر. 
*** 

أذكر أنني رأيت فوق تسريحة أمي.. هذا النوع من العطر، إلا إنني كثيراً ما صادفته بين أدوات تجميل صديقاتها. كانت أمي لا تغيّر عطرها أبداً، ولا تحب السياحة بين العطور، كانت تعتبر أن عطر المرأة.. هو بصمتها وسمتها ونفسها، وأنه ثابت كلون عينيها.  

وهكذا، ففي كل المرّات.. التي كان فيها أبواي يخرجان معاً، ويتوجهان إلى كازينو قصر النيل – مكانهما المفضّل – كانت أمي ترتدي أحد فساتينها المنفوشة، وتزيّن صدرها بعُقد كريستال، وقبل أن تلوِّح لنا مغادِرة.. تضع خلف أذنيها قطرتين من عطر Soir de Paris ، من زجاجته ذات اللون الأزرق الداكن.. ورائحته النفّاذة. كان عطرها الذي يبقى في المكان، يخفّف من وحشتنا عند غيابها – حتى إذا عادت.. هيئ لنا – أو لي أنا على الأقل – أن حبل رائحتها ممدود بين البيت والكازينو وبالعكس.  

اليوم، وأنا أكاد أستنشق رائحة Soir de Paris في جو الغرفة، أحن إلى كل تلك التفاصيل الصغيرة؛ إلى العُقد الكريستال، وكل عقود أمي اللؤلؤ.. التي كنتُ مغرمة بفرطها؛ على أمل أن أعيد لضمها.. لأجعل منها عقوداً أبهى وأجمل، وهو الأمل الذي لم يتحقّق قط. حتى إذا جلستُ وسط بحيرة من الحبّات.. المنثورة بلا رابط، جاءت أمي لتعنّفني.. على كارثتي الصغيرة، ثم إذا بها تلين وتهدأ، ونتشارك معاً.. في جمع ما انفرط. وحتى بعد أن تخطّيت مرحلة الطفولة، ظللتُ أحلم بأن أكون قادرة على بعث الروح.. في كل الأحجار الكريمة، والمعادن الثمينة.. والفالصو، ولم أقدر، لكنني لم أفقد أبداً حبّي للحُلي، ولا نسيتُ حُلي أمي.. في الزمن الجميل. 
*** 
أما عطر Je reviens – الذي كان ينافس عطر Soir de Paris في سوق الروائح زمن الخمسينيات والستينيات – فإنه يذّكرني بأحد أفلام الأبيض والأسود، التي تحمل بعضاً من روايح العصر الذهبي للسينما المصرية.. فيلم «الطريق المسدود».  

كانت قصة الفيلم شديدة الواقعية، لأنها تحكي عن فتاة.. استطاعت أن تتمّرد على انحراف أسرتها، ونفاق المجتمع، وتفتح لنفسها طريقاً كان شبه مسدود. في الفيلم سيل من التفاصيل.. التي يمكن أن تعلق بذاكرة المشاهد، لكن ما من مرة عُرِض فيها الطريق المسدود.. إلا وانتظرتُ المشهد الذي يهدي فيه توفيق الدقن – أجزجي القرية – إلى البطلة فاتن حمامة.. زجاجة من عطر «چي رڤيان»، كما كانت تنطق اسمه وداد حمدي. فإذا كان لكل عمل درامي لازمة.. يتعّلق بها الجمهور، فإن «چي رڤيان».. هي لازمة فيلم الطريق المسدود بالنسبة لي، فقد اعتبرتها تلخص معركة المدرّسة الجديدة.. مع فساد السلطة، ورموزها في القرية.  

هذا الزوم اللإرادي على عطر الأجزجي، يشبه تماماً الزوم على عطر «أنوثة» الذي كان يتعطّر به عمر الحريري.. في فيلم غصن الزيتون. ويشبه الزوم على رائحةOgleby Sisters ، التي كان يمكن للعميد المتقاعد الضرير آل باتشينو.. في فيلم عطر امرأة، أن يميّزها من بين ألف ألف رائحة.  

القصص الثلاث مختلفة، والأبطال مختلفون، والسياق والزمن مختلفان، لكن – في كل هذه الأعمال – كان العطر هو المفتاح. 
*** 
روايح الزمن الجميل، ذلك التعبير البديع.. الذي ارتبط باسم سيد حجاب، هو أكثر من مجرد كونه تعبيراً مجازياً؛ فالزمن والبيوت، والأكل والملابس، والفصول والكتب، والذكريات والناس، وطبعاً العطور.. كلهم له روايح حقيقية. هذه الروايح تهف علينا.. بين الحين والآخر، فترفرف بنا.. فوق ما مضى، وعيوننا تنظر إلى اللي جاي. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة