Times of Egypt

الآثار الداخلية لحروب التحرر الوطني: الحالة الإسرائيلية 

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد 

لكل الحروب آثارها الداخلية؛ سواء كانت تلك الحروب.. هي السبب الأصيل فيها، أم أنها كانت عاملاً مساعداً لتحفيز تطورات داخلية.. تكون قد بدأت بفعل عوامل ذاتية. وعلى سبيل المثال، فقد وقعت الثورة البلشفية في روسيا.. في سياق الحرب العالمية الأولى، وتفككت الدولة العثمانية بعدها، وحدثت تغييرات جذرية في نظم الحكم في ألمانيا وإيطاليا واليابان.. بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.  

وإذا كانت الحروب الدولية.. تتعلق بتوازنات القوى بين أطرافها، فإن حروب التحرر الوطني حالة خاصة من الحروب، ترتبط بمقاومة شعب محتل لقوة استعمارية، ويكون هدفها تحقيق الاستقلال. وعادة ما تنتهي بتحقيق ذلك الهدف.. ولو طال أمدها، وإن كانت مواصفات الاستقلال تتوقف على ميزان القوى.. الذي انطوت عليه تلك الحروب، وتُسَلم القوى الاستعمارية بمطلب الاستقلال.. عندما تزيد تكلفة الاحتفاظ بالمستعمرات، عن العائد منها. وإن كان بعض السلطات الاستعمارية قد فشلت تاريخياً في إدراك هذه الحقيقة، رغم ما أحدثته حروب التحرير من تأثيرات معاكسة عسكرياً واقتصادياً، ومن ثم سياسياً.. على القوى الاستعمارية. 

 وهنا تصل التأثيرات الداخلية عليها.. ذروتها، فتحدث تغييرات داخلية جذرية، تغير السياسات المُتَّبَعَة باتجاه التسليم بالاستقلال؛ كما حدث في الحالة الفرنسية في حرب التحرير الجزائرية.. عندما بدا واضحاً استحالة هزيمة جبهة التحرير، وإصرار السلطات على التمسك بسياستها تجاه الجزائر؛ فما كان من الجيش.. إلا أن أتى بالجنرال شارل ديجول إلى الحكم – وهو بطل تحرير فرنسا.. الذي تولى الحكم بعد التحرير لمدة قصيرة – وقد أسس للجمهورية الخامسة، وسلم باستقلال الجزائر 1962.  

وتكرر النموذج ذاته في البرتغال، عندما قام الجيش 1974 بانقلاب ضد نظامها الفاشي، وأقام نظاماً ديمقراطياً.. سلَّم باستقلال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا في السنة التالية.  

فأين إسرائيل من هذا النموذج؟ 

لا شك أن إسرائيل تمثل حالة خاصة.. في السياق السابق، لأنها نموذج للاستعمار الاستيطاني العنصري؛ كما كانت الحال في النظم العنصرية في الجنوب الأفريقي – وعلى رأسها النظام في جنوب أفريقيا – مع فارق مهم؛ وهو أن تلك النظم كانت نظماً أقلية.. بحيث بقيت الأغلبية للمواطنين الأصليين.  

أما الحالة الإسرائيلية، فهي ذات طابع إحلالي واضح.. كما حدث في نكبة 1948. وكما تحاول نخبتها الحاكمة المتطرفة.. أن تكرر الآن هذا النموذج في غزة والضفة؛ بدليل الأعمال الإجرامية الحالية.. التي تجري هناك، وتصريحات الساسة المتطرفين، عن تقليل عدد السكان الفلسطينيين، وتشجيع هجرتهم.. التي يسمونها بالطوعية، وهي تحدث – إن تمت – في ظل مذابح وحشية.. تحت سمع العالم وبصره؛ وهي سياسات حظيت بما يشبه الإجماع الوطني.. بعد صدمة «طوفان الأقصي» وما ترتب عليها.  

وبالتالي يبدو تكرار النموذج السابق في الحالة الإسرائيلية.. صعباً.  

ومع ذلك، فلا يمكن أن يُستبعد تماماً.. احتمال حدوث تأثيرات سياسية داخلية – ذات شأن – في إسرائيل؛ وذلك لأن صمود المقاومة في وجه الوحشية الإسرائيلية.. كانت له آثار مهمة؛ تمثلت أولاً في تداعيات مشكلة احتجاز الأسرى والرهائن على الرأي العام. وثانياً في الخسائر البشرية والاقتصادية. وثالثاً في تحولات الرأي العام الدولي.. في دول حليفة وصديقة لإسرائيل؛ بما في ذلك الولايات المتحدة.  

وقد تمثلت هذه الآثار أولاً في حدوث تغيير في توجهات الرأي العام الإسرائيلي، بحيث أصبحت غالبيته تؤيد وقف الحرب.. ضد رغبة نتنياهو – الذي يحتاج استمرارها لتأمين بقائه السياسي – غير أننا يجب أن نلاحظ أن هذه التغيرات، لا تصل إلى حد تغيير توجهات المجتمع الإسرائيلي.. تجاه جوهر الصراع. ناهيك عن أن توجهات الرأي العام تتذبذب أحياناً.. وفق مجريات سير القتال؟ فيقل التأييد للحرب.. عندما تتعاظم إنجازات المقاومة، ويزيد.. عندما توجه إسرائيل ضربات موجعة لها.  

غير أن عين المراقب، لا يمكن أن تخطئ تطورات.. تشير إلى إرهاصات لتحول محتمل في نموذج الحالة الإسرائيلية، ولا يتعلق هذا التحول بالموقف من الحرب، وإنما بإدانة السلوك الإسرائيلي، بما قد يفتح الباب لتغييرات سياسية ذات شأن.. في الداخل الإسرائيلي، يمكن أن تساعدنا في إدارة الصراع.. إذا أحسنا توظيفها.  

وأُركز في هذا الصدد.. على تطورين شهدهما الشهرين الماضيين؛ أولهما: تصريحات ناشر صحيفة «هاآرتس» عاموس شوكن – في لندن في نهاية أكتوبر الماضي – التي اتهم فيها حكومته بأنها «تتجاهل التكاليف التي يتحملها كلا الجانبين للدفاع عن المستوطنات.. أثناء محاربة مقاتلي الحرية الفلسطينيين». كما اتهمها «بفرض نظام فصل عنصري قاس على الفلسطينيين وارتكاب تطهير عرقي».  

أما التطور الثاني: فتمثل في تصريحات موشيه يعلون – في نهاية الشهر الماضي – التي قال فيها إن «الطريق الذي نمضي فيه هو طريق الغزو والضم والتطهير العرقي»، وأن «إسرائيل تفقد هويتها كديمقراطية ليبرالية، وأنه لم يعد بوسعه وصف الجيش الإسرائيلي بأنه الأكثر أخلاقية في العالم».  

وقد أثارت التصريحات – في الحالتين – غضباً إسرائيلياً عارماً، ووقفاً للتعاملات مع الصحيفة، وحرمانها من الإعلانات.. مما أدى إلى توضيح من شوكن؛ بأنه لم يقصد «حماس» بوصف المقاتلين من أجل الحرية، لكنه أكد أن هناك مقاتلين من أجل الحرية. أما يعلون.. فتمسك بتصريحاته، وقال إنه استقاها من ضباط يحاربون في غزة.. وهذا أخطر؛ لأنه يعني أن ثمة ضباطاً.. يعارضون جرائم الجيش الإسرائيلي.  

وتتمثل أهمية هذه التصريحات.. في مكانة قائليها؛ فأولهما ناشر لواحدة من أهم الصحف الإسرائيلية. والثاني وزير دفاع، ونائب لرئيس الوزراء في حكومة سابقة لنتياهو.  

كما أن هذه التصريحات.. تمثل نقداً جذرياً للسياسة الإسرائيلية، ولو استمر الاتجاه الذي عبرت عنه.. في الصعود، واكتسب مزيداً من التأييد داخل المجتمع الإسرائيلي، فإنه يمكن أن يمثل عاملاً مساعداً.. في إدارة الصراع مع إسرائيل، الذي يجب ألا تقتصر أدواته على المقاومة المسلحة وحدها.. رغم أهميتها الفائقة. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة