سمير مرقص
(1)
«لكل زمن حروبه»
في نفس يوم نشر مقالي السابق: «اللحظة التاريخية: صفر»، وصلني العدد الجديد من دورية «فورين أفيرز» الأمريكية (عدد نوفمبرـديسمبر 2024)، تضمن العدد ملفاً عنوانه: حرب العالم The War of The World؛ ضم الملف أربع مقالات.. تناولت الموضوعات التالية: أولاً: عودة الحرب الشاملة، وثانياً: الحروب لا تندلع صدفة، وثالثاً: عملاء الصين لإحداث الفوضى، ورابعاً: معارك عالية الدقة.
يعكس الملف، من خلال مقارباته الأربع، كيف أن العالم يشهد مخاضاً جديداً تعكسه الحروب الراهنة التي يشهدها الكوكب. وبالطبع هناك صعوبة لعرض المقاربات الأربع، لذا سأكتفي بالمقاربة الاستهلالية لأهمية ما طرحته من أفكار من جهة، ولأهمية كاتبتها من جهة أخرى. فلقد كتبت المقاربة الاستهلالية «مارا كارلين»، أستاذة العلاقات الدولية بجامعة جونز هوبكنز، التي أتيحت لها الفرصة أن تعمل في إدارة بايدن كمعاونة لوزير الدفاع للشأن الاستراتيجي لمدة عامين (2021- 2023).
طرحت مارا كارلين من خلال مساهمتها المعنونة: «عودة الحرب الشاملة» في فهم- الاستعداد- عصر جديد من الصراع الشامل The Return of Total War ؛ تستهل الكاتبة مقاربتها بمقولة للقائد العسكري والمؤرخ الألماني كارل فون كلاوزفيتز (1780ــ 1831) تقول: «كل عصر له حروبه التي تتوافق مع طبيعته». انطلاقاً من هذه المقولة تؤسس الكاتبة فكرة غاية في الأهمية، خلاصتها: إن حروب اليوم لم تعد مجرد تكرار للصراعات التقليدية التي عرفها العالم، إذ هناك علاقة وثيقة بين طبيعة العصر/ الزمن- الاقتصادية والسياسية والثقافية- وما يترتب عليها من صراعات شاملة ومركبة ومتقاطعة ومتشابكة.. كيف؟
(2)
«من زمن الحروب المحدودة إلى الصراعات الشاملة»
في ظل الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي (الاشتراكي) والغربي (الرأسمالي)، لم تسمح سياسة التوازن النووي التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إلا باشتعال صراعات في سياقات محددة يمكن السيطرة عليها. بيد أن ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى استحداث ما بات يُعرف في الأدبيات بالحرب الاستباقية.
تلك الحرب التي استثمرت الطفرة الرقمية في تجديد التقنيات العسكرية. ونشير هنا إلى ما أوردناه في كتابنا «الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة.. من التوسع والتفرد إلى الاختلال والتعدد» (2003، وفي طبعته المزيدة والمنقحة 2025 الصادرة عن دار العين)، حول الاستراتيجية التي أعلنها رامسفيلد – زمن المحافظين الجدد – آنذاك وسماها: استراتيجية التحول العسكري Transforming Military Strategy؛ إذ أشار فيها إلى ضرورة الأخذ باستراتيجية عسكرية جديدة تتجاوز زمن الحرب الباردة، وتتناسب مع المستجدات العالمية من: محاربة أعداء غير مرئيين، والقوى العالمية الصاعدة التي يمكن أن تهدد المصالح الأمريكية، ومن ثم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من أن توفر الردع في أربعة مسارح عمليات حرجة في ذات الوقت: Deterrence in four Theatres of War؛ وتتيح هذه الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها: ردع وإلحاق الهزيمة بعدوين في وقت واحد، وإمكانية تنفيذ هجوم شامل وكاسح في آن واحد في أي وقت ضد عدو محدد واحتلال عاصمته وتغيير النظام فيه قسراً، إضافة إلى تغيير اقتصاده.
وبالعودة إلى حديث مارا كارلين، فإنه يمكن القول إنها تؤكد تطبيق الولايات المتحدة الأمريكية لما سبق – عملياً – خلال السنوات الأخيرة، إذ فرضت التحولات العالمية وما أطلقت عليه: السلسلة المتواصلة من الصراعات The Continuum of Conflict؛ إلى الانخراط جبراً في أكثر من موقع.. في أكثر من قارة براً وبحراً.. وجواً بواسطة أسلحة ذات تقنيات فائقة سريعة النقل إلى مسارح العمليات في: قلب أوروبا، والشرق الأوسط، والمحيطين الهادي والهندي.
(3)
«نهاية وبداية»
ولعل أهم ما خلصت إليه الباحثة هو أن الحرب الشاملة التي أصبحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية مع الشركاء في القارات/ المناطق الحيوية المختلفة: الحلف الأطلسي، إسرائيل، والدول المحورية في آسيا وأمريكا اللاتينية… إلخ، قد أحدثت على أرض الواقع تغيرات جيوسياسية جذرية، كما أثرت على نظم التعبئة المالية من أجل تعميم اقتصاد الحرب في العالم، وإعادة بناء الاقتصادات لتحقيق الانتصار في الحرب الشاملة العابرة للقارات.
وحول الاستنفار الأمريكي، تقول الباحثة: إنه أمام كل خطوة تخطوها الولايات المتحدة الأمريكية تقابلها خطوة مماثلة من الخصوم، فكل تطور تقني تسليحي يواجه بتطور تقني تسليحي مضاد، لذا فإن التقييم الأوَّلي للحرب الشاملة الراهنة التي لم تزل مشتعلة عبر جغرافيات سياسية مختلفة: الشرق الأوسط وأوروبا، إضافة للتحرشات الأمريكية الصينية غير المباشرة في آسيا، يشير إلى أننا في سياق مرحلة تاريخية.. مغايرة عن التي عرفها العالم من قبل. بلغة أخرى نحن أمام حرب/ حروب غير مسبوقة، تعكس نهاية زمن وبداية عصر، ما يتطلب رؤى طازجة لإدراك العصر الجديد قيد التشكل.
نقلاً عن «المصري اليوم«