نبيل عبدالفتاح
دولة ما بعد الاستقلال.. في العالم العربي، تشكَّلت في ظل مجتمعات انقسامية – باستثناء مصر والمغرب ونسبيا تونس – لم تكن مكوناتها القبائلية والعشائرية والطائفية والدينية والمذهبية، وأنماط الإنتاج وعلاقاته.. تشكل مفهوم الأمة على النمط الغربي للدولة/الأمة القومية؛ من ثم اتسمت الدولة بالهشاشة البنيوية والرمزية، واختلط مفهومها بالنظام السياسي، وبالسلطة الحاكمة. من ثم وُلدت الدولة غائمة في الوعي الجمعي.. لصالح السلطة؛ كان الخطاب السياسي حول السيادة مسيطراً، ومختلطاً بالحكم والحاكم.
الملاحظ تاريخياً، أن السيادة كانت رمزية في ظل هشاشة الدولة، ومفهوم الوطنية المتشظي من خلال الانتماءات إلى القبيلة، والطائفة، والديانة، والمذهب، والعرق، والمنطقة. من ناحية أخرى، كانت الاختلالات سائدة في علاقات الدولة، والنظام الدولي.. خاصة أثناء الحرب الباردة وما بعدها؛ حيث اتسمت بالخلل الهيكلي في علاقات بعض الدول العربية الخارجية، وبين المركز الإمبريالي الغربي أساساً، وتزايدت التبعية مع نهاية الحرب الباردة، وتطبيق بعض السلطات العربية الحاكمة.. السياسات النيوليبرالية الوحشية، ومن ثم خضوعها لسياسات المركز النيو إمبريالي الغربي، والمؤسسات التمويلية الدولية.. كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وغيرهما من المؤسسات التمويلية. من ثم تركت هذه السياسات – مع العولمة، وهيمنة الشركات الرأسمالية الكونية الكبرى على سياسات الدول، والمنظمات والمؤسسات الدولية، والإقليمية – تأثيراتها على بعض سياسات الدول عامة، والدول العربية.. وفي جنوب العالم.. على وجه الخصوص.
من هنا تراجع مفهوم السيادة الوطنية للدول، وتآكل.. مع الثورة الرقمية والنيوليبرالية الرأسمالية، وشركاتها الكونية؛ مما أدى إلى ممارسة الضغوط على الدول في شمال العالم.. في ظل هيمنة الولايات المتحدة، مع سياسات الإدارة الجمهورية لترامب، وتزايدت حالة الوهن على الدول المتوسطة، والأخطر.. على الدول الفقيرة في جنوب العالم، خاصة دول العسر العربية ومجتمعاتها الانقسامية.
مع الثورة الرقمية، والذكاء التوليدي، والشركات الرأسمالية الرقمية النيوليبرالية، تكرس التأثير على سياسات الدول، ومعها مفهوم السيادة الذي بات يتراجع، خاصة في دول جنوب العالم التابعة، وباتت الدول العربية تلهث وراء متابعة بعض من التطورات التقنية.. في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ كمحاولة في الخروج من دوائر الريع النفطي.. إلى اقتصاديات ما بعد النفط، ومع ذلك تظل هذه السياسات – لاستيراد تقنيات الثورة الصناعية الرابعة والخامسة – أسيرة سياسات المركز النيوامبريالي، وشركات الرقمية النيوليبرالية، في ظل سيطرتها على هذه المجالات وأسرارها التقنية.
إن نظرة على أوضاع بعض الدول العربية الهشة.. تشير إلى تفاقم مشكلاتها، مع الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، والنيوليبرالية الاقتصادية، لا سيما في ظل تخلف الأنظمة والأجهزة البيروقراطية، وقدراتها على إفشال محاولات تطويرها رقمياً وتقنياً. مرجع ذلك ضعف التخصصات والخبرات المهنية والوظيفية والإدارية، وانتشار الفساد الإداري والوظيفي؛ وعلى رأسه اختلاس المال العام، واستباحته من بعضهم، والرشى في تقديم الخدمات للمواطنين، وفي انتهاك القوانين واللوائح.. على نحو ما يظهر في تنظيم المرور، وفي المحليات، ورخص البناء، أو البناء دون ترخيص.. في أراضي الدولة، على نحو أدى إلى فوضى وتشويهات للتخطيط العمراني، والاعتداء على الأراضي الزراعية، وتبويرها.. لتحويلها إلى أراض للبناء كما حدث في بعض الحالات العربية، وتحطيم التراث المادي التاريخي في عديد البلدان. أدى السلوك الإداري إلى إنتاج فوائض كبرى.. من ثقافة الفساد، والتحايل من الموظفين العموميين، ومن المواطنين.. على نحو ساهم في تشكيل اتجاهات حالة المجتمع ضد الدولة؛ إذا شئنا استعارة الحالة السورية تحت حكم البعث وعائلة الأسد، وأجهزتها الفاسدة في سوريا، ودول أخرى.
أدَّى فشل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية الوحشية.. إلى تهميشات وإقصاءات لعديد من المكونات الأساسية في المجتمعات العربية، على نحو أدى إلى تمركزها النسبي حول بعض من ثقافاتها، وهوياتها، ورموزها، وسردياتها التاريخية حول ذاتها! وسيادة النزعة الارتيابية.. إزاء المكونات الأخرى والدولة، والسلطة الحاكمة، على نحو أدى إلى ضعف بعض الروابط بين هذه المكونات.. بعضها بعضا، وحرص كل مكون على تماسكه الداخلى، والنظرات والإدراكات الجماعية، والمواقف المحمولة على الشكوك والارتياب والحذر.. إزاء سياسات وقرارات وقوانين السلطة الحاكمة.
تشير بعض مظاهر الفوضى واللا نظام – في بعض المجتمعات العربية – إلى تشكلات لما يمكن أن نطلق عليه.. ثقافة الفوضى، أو حالة المجتمع ضد الدولة، وضد النظام، وذلك من خلال أنماط من السلوك الاجتماعي، وبعض القيم والمقولات.. التي لا تأبه بالسلطة السياسية، وتتظاهر بقبولها.
ثقافة الفوضى.. تمددت مع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم تداول المنشورات، والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، وما تنطوي عليه اتهامات بعضها حقيقي، وبعضها مختلق، وترمي إلى الحط من شأن السلطة، ومن حولها من رموز أبنية القوة.
نقلاً عن «الأهرام»