وجيه وهبة
«سليم نصيب».. صحفي وكاتب فرنسي.. من أصول سورية / لبنانية، كان يعمل بجريدة «ليبراسيون» الفرنسية – في مطلع التسعينيات من القرن الماضي – حصل «سليم» من الصحيفة.. على منحة تفرغ لمدة عام، من أجل تأليف رواية مستوحاة من حياة «أم كلثوم» (صدرت الرواية عام 1994 بالفرنسية أولاً، بعنوان «أم oum»، ثم صدرت بعد ذلك بعدة لغات أخرى.. من بينها العربية).
بناءً على توصية من الصديق الروائي المصري المقيم بباريس.. «نبيل نعوم»، تواصل معي «سليم نصيب»، لمساعدته في جمع المادة اللازمة لعمله المرتقب. أراد «سليم» إجراء لقاء مع الفنان «بليغ حمدي». تم تحديد الموعد، والتقينا ببليغ في منزله. في ذلك اللقاء، تداعت ذكريات «بليغ»، وتحدث باستفاضة عن «الست». وعن لقائه الأول بها؛ حين قدّمه إليها الفنان «محمد فوزي».. تقديماً مصحوباً بإشادة بموهبته، وبلحن جديد يعمل عليه. أعجب اللحن «أم كلثوم» وقرّرت أن تغنيه، فكان اللقاء الأول؛ «حب إيه».
كانت البروفات تُجرى في بهو فيلا «أم كلثوم». وذات مرّة، تأخّر «بليغ» قليلاً عن ميعاد بدء البروفة. عنّفته «أم كلثوم»، فتحجّج بأن سائق التاكسي ضل الطريق. طلبت منه أم كلثوم أن يذهب في اليوم التالي إلى مقر شركة «تاونس» للسيارات، ويختار سيارة. وبذلك لا تكون هناك حجّة للتأخير عن البروفات. يقول «بليغ»: «ذهبت في اليوم التالي إلى شركة السيارات، وجدتهم في انتظاري.. بناءً على طلب الست. وبخجل اخترت أصغر سيارة في المعرض».
بعد أيام، وأثناء جلوسه مع الموسيقيين في البهو.. انتظاراً لبدء البروفة، تطل «الست» من الدور العلوي على البهو وتسأل: «بليغ وصل؟». فيرد «بليغ»: «أيوه يا ست». تطلب منه الصعود، يصعد إليها، تذهب به نحو النافذة وتسأل: «فين العربية؟»، فيشير بإصبعه إلى أصغر سيارة.. مركونة تحت الفيلا. وهنا تعلو ضحكتها قائلة: «هي دي.. ما جبتهاش معاك ليه وإنت طالع؟».
حكى لنا «بليغ» تلك الواقعة، ليرد على سؤال «سليم نصيب».. عما شاع عن تقتيرها وبخلها. وتساءل مستنكراً: «بخيلة؟! البخيلة تجيب لي عربية.. قبل ما أنتهي من تلحين أول لحن لها؟!!». واستطرد غاضباً.. «حتى الورثة الجشعين.. ناكري الجميل، باعوا فيلتها بدل ما يعملوها متحف!!».
واسترسل «بليغ» في سرد حكايات أخرى عاشها بنفسه، تدحض اتهام «الست» بالبخل، الذي أشاعه عنها البعض، ومنهم العبقري «محمد القصبجي». فواقع الأمر أن زوجة «القصبجي» كانت تشكو لأم كلثوم.. من أنه يسرف في الإنفاق على «نزواته» و«مزاجه»؛ فكانت «الست» ترفض تلبية طلباته المالية المتكررة، بينما ترسل للزوجة ما تحتاجه.. سراً دون علمه. وربما نسرد تفاصيل تلك العلاقة المركبة.. بين الأستاذ «القصبجي»، والتلميذة «أم كلثوم»؛ كما حكاها «بليغ»، وذلك في سياق آخر.
حكايات «بليغ حمدي».. طفت على سطح الذاكرة، بمناسبة فيلم «الست». هذا الفيلم.. الذي تباينت وجهات النظر فيه.. إلى حد التناقض. وبعيداً عن الاتهامات المبتذلة المتهافتة، وخبل نظرية المؤامرة على «مصر» ورموز «مصر»، نسجل فيما يلي بعضاً من ملاحظاتنا عن الفيلم وما أثاره، ولا يعنينا جهة الإنتاج، والملايين المهدرة بسفه.. في إنتاجه.
فن «أم كلثوم» وحياتها.. مادة غنية تصلح لعمل العديد من الأفلام، فهي جزء مهم من مرحلة تاريخية، مفعمة بتقلباتها السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة، ولكلٍ الحق.. في أن يتناولها من وجهة نظره، أو يستوحي منها ما يشاء.
من الغبن والعيب والعار والتسلط.. أن يطالب البعض برفع الفيلم من دور العرض، بحجة الإساءة إلى الرموز المصرية.
الأداء الصوتي للفنانة الموهوبة «منى زكي».. اتسم بما يمكن وصفه «تطجين» وجلافة – بلا مبرر – ولدينا العديد من التسجيلات.. للقاءات وحوارات «أم كلثوم»، تشهد ببراءة «الست» من غلاظة أداء «منى زكي».. في النطق.
سيناريو «الست».. يبدأ بسقوط «الست» على مسرح الأوليمبيا بباريس، وينتهي بالعودة لنفس المشهد.
أما ما بين المشهدين، فهو أشبه ما يكون بحشو ساندوتش «حواوشي».. مليء بالبهارات والتوابل، فلا تتعرّف على ما تأكل، أهو لحم حمير أم لحم كلاب. سيناريو قص ولزق.. تناتيش من هنا وهناك، واختلاق مشاهد للإثارة، مفتعلة، بصورة هزلية (مثال: القصبجي يهدد محمود الشريف بمسدسه، ويحاول الاعتداء عليه). أما عن الإخراج، فعموماً – مع هكذا سيناريو ملفق مهترئ – لا يفيد معه استعراض مهارات و«شقلباظات» الإخراج.. وتكنيكاته المبهرة.
تقنية التصوير والإضاءة الخافتة، هي أشبه ما تكون بتقنية تصوير وإخراج أفلام الرعب، وكأننا أمام فيلم من إخراج «هيتشكوك»، و«كلوزات».. تبدو فيها «الست» وكأنها «بيتي ديفيز».. في فيلم من أفلام الجريمة، تدور كل أحداثه في الظلام الدامس.
الفيلم لا يغوص في أعماق «أم كلثوم الإنسانة»، بل هو في الواقع.. يغوص في وحل الافتعال والتصنع والابتذال الهزلي، اعتماداً على القيل والقال، أحياناً، أو على خيال عاجز وفقير وسقيم، أحياناً أخرى.
مع وجود مئات من الألحان العبقرية المتنوعة.. التي غنتها، نجد أنه من الغريب أن يستعان بموسيقى تصويرية.. بعيدة تماماً عن روح فن «أم كلثوم» المصرية. وفي كثير من الأحيان كانت تلك الموسيقى تطغى على الحوار.. فيصعب سماعه.
النقد – بقدحه أو مدحه – لا يُسقط فيلماً جيداً، أو يُنجح فيلماً رديئاً. وليس هناك قداسة لأم كلثوم. ولصُناع فيلمها كل الحرية.. في عرض رؤيتهم. كما أن للجمهور أيضاً.. الحرية في إبداء رأيه في الفيلم.. الذي ارتكبوه، وأن يصفه بأنه – عدا اللقطات التسجيلية، ومشهد جنازة «أم كلثوم» الحقيقي.. المهيب المؤثر – هو فيلم بلا روح.. مدعٍ هزيل مهترئ.. كئيب.. لا يشرف صناعه.
نقلاً عن «المصري اليوم»