د. أحمد يوسف أحمد
في البدء كان هناك طرفان متصارعان.. يخططان لمستقبل غزة؛ أولهما: السلطات الإسرائيلية.. التي تريد الاحتفاظ بغزة، بعد الاستيلاء عليها في عدوان 1967؛ كجزء من إسرائيل التاريخية.. كما يدَّعون؛ بحيث ينطبق عليها ما انطبق على الأراضي الفلسطينية، التي سيطرت عليها العصابات الصهيونية في 1948.. من تهجير لشعبها، واستيطان لها من المهاجرين الغرباء عنها، وإذلال أو – على أحسن الفروض – تهميش.. من نجح في عدم مغادرة وطنه.
أما الطرف الثاني: فهو مقاومة الاحتلال، التي نجحت في تحقيق نقلة نوعية في أدائها.. مع مطلع القرن الحالي في إطار انتفاضة الأقصى.. التي تفجَّرت في 28 سبتمبر 2000، وأخذت في التصاعد إلى الدرجة التي أجبرت واحداً من أشرس القادة العسكريين للكيان الصهيوني – وقد أصبح رئيساً لوزرائه – على الخروج بفكرة فك الارتباط من جانب واحد؛ بمعنى انسحاب القوات الإسرائيلية تماماً من القطاع، بعد أن فشلت تلك القوات الإسرائيلية.. في القضاء على المقاومة، بل لقد فكَّك أرييل شارون المستوطنات القريبة من غزة؛ في سابقة هي الأولى من نوعها، لوقوعها في مرمى صواريخ المقاومة.. التي كانوا في البدء يتندَّرون عليها؛ باعتبارها ألعاب أطفال.
غير أن أفكار شارون لم تكن تنطوي على أي تسليم بحرية غزة، وإنما كان البديل هو الحصار.. بهدف الخنق، وهو الحصار الذي زادت وتيرته.. بعد فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية في 2006، وتشكيلها الحكومة.. بعد أن رفضت فتح المشاركة معها في حكومة وحدة وطنية، ومنذ ذلك التاريخ – وحتى الانفجار الكبير في 7 أكتوبر 2023 – تبلور نموذج العلاقة.. بين المحتل الإسرائيلي، والمقاومة الفلسطينية؛ في شكل محاولات متصاعدة من المقاومة.. لفك الحصار، تتلوها ردود فعل إسرائيلية عسكرية.. تحاول بدورها القضاء على المقاومة؛ دون أن تنجح المقاومة في إنجاز هدفها التحرري. وكذلك دون أن تنجح إسرائيل في القضاء على المقاومة.
وقد تبلور هذا النموذج – عبر 6 جولات عسكرية عنيفة على الأقل.. ما بين سنتَي 2006 و2022 – إلى أن وقع الانفجار الكبير في 7 أكتوبر 2023. ومعروف بطبيعة الحال:: ما أفضت إليه عملية «طوفان الأقصى» – التي بدأت في ذلك التاريخ، وأصبحت أطول الحروب العربية-الإسرائيلية بما.. في ذلك حرب التأسيس في 1948؛ من قتل وإصابة ما يقترب من 200 ألف فلسطيني، وتدمير شبه كامل لغزة. لكن المعضلة التي واجهتها إسرائيل.. أن كل هذه الخسائر – التي ألحقتها بالمقاومة، وقاعدتها الشعبية، وأرضها – لم تُمكِّنها من تحقيق هدفيها المعلنين؛ وهما: تحرير أسراها، واجتثاث المقاومة.
وهنا جاء دور الطرف الثالث – الذي بدأ يشارك في التخطيط لمستقبل غزة – وهو الولايات المتحدة، أو بالأحرى ترامب.. الذي كان قد قدَّم لإسرائيل (في ولايته الأولى) ما فاق بكثير ما قدَّمه أي رئيس أمريكي سبقه؛ من اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبضمها للجولان، وبشرعية الاستيطان. لكنه خرج علينا في فبراير 2025.. بأفكاره الشائهة؛ عن تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن. وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط».
ولقد تصدَّت القيادة المصرية – بجسارة – لهذه الأفكار، وأعلن الرئيس السيسي أن هذا ظلم.. لا يمكن لمصر أن تشارك فيه، ناهيك بتداعياته السلبية على الأمن المصري. كما نجحت القيادة المصرية في حشد الموقف العربي والإسلامي.. من خلفها، كذلك واصلت المقاومة صمودها، واستمر عجز إسرائيل عن حسم المواجهة.
وهنا تغيرت التكتيكات؛ وتقدَّم ترامب، في سبتمبر الماضي، بخطته التي نصَّت على عدم تهجير سكان غزة، أو ضمها لإسرائيل. ثم تُرجمت إلى مشروع قرار أمريكي.. قُدِّم لمجلس الأمن، وصدر برقم 2803، (قمت بمحاولة لتحليله في مقال نُشِر على هذه الصفحة في نوفمبر الماضي)، وأوضح الجوانب الإيجابية والسلبية في القرار. غير أنه لفتني أن القرار – في بنده العاشر – نص على وضع «خطة ترامب للتنمية الاقتصادية.. لإعادة بناء غزة وتنشيطها، عبر لجنة خبراء ساهموا في تأسيس مدن حديثة مزدهرة في الشرق الأوسط، وسيؤخذ بعين الاعتبار العديد من المقترحات الاستثمارية، وأفكار التطوير المطروحة.. من جهات دولية حسنة النية، لدمج الأطر الأمنية والحوكمية بما يجذب هذه الاستثمارات وييسرها، ويوفر وظائف وفرصاً وأملاً بمستقبل أفضل لغزة» (انتهى الاقتباس من القرار)، كما نص البند الـ11 على إنشاء «منطقة اقتصادية خاصة، تتمتع بتعريفات جمركية تفضيلية».
… وهذه كلها أفكار تُذكِّرنا بروائح «صفقة القرن التي طرحها ترامب في ولايته الأولى، وكانت مؤسسة على وهم إمكان حل الصراع حول فلسطين بنهج اقتصادي، ناهيك بأن يكون لصالح شعبها.
كما أن تلك الأفكار – المتضمَّنة في البندين 10و11 – تثير هواجس العودة لأفكار «ريفييرا الشرق الأوسط»، إن كان قد تم التخلي عنها أصلاً.
ثم تعزَّزت هذه الهواجس بتقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال في 19 ديسمبر الجاري.. عن «مشروع شروق الشمس» الذي ينطوي على منتجعات فاخرة على شاطئ البحر، وقطارات فائقة السرعة، وشبكات ذكية مُحَسَّنة بالذكاء الاصطناعي.
وقد أعد المشروع.. فريق بقيادة كوشنر وويتكوف – المسؤولَين عن تحويل العالم.. لمشروع عقاري كبير – وتُظهر الخطة (المكوَّنة من 32 صفحة) صوراً لناطحات سحاب، ورسوما ًبيانية، وجداول التكاليف.. التي قدرت بـ112.1 مليار دولار.. على مدى 10 سنوات (منتهى الدقة).
هذه التقارير تثير الأسى.. حول أولويات الفاعل الأمريكي في جهود التسوية الراهنة، في الوقت الذي ينام فيه أهل غزة رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً.. في مياه الأمطار والصرف الصحي حرفياً، ويُحرمون فيه من الماء النظيف والطعام والدواء.. في مخالفة صريحة لقرار مجلس الأمن.. لا يشير إليها الراعي الأمريكي لجهود التسوية بحرف، ناهيك بالمعنى الخطير لخطة التطوير، وهو أن ترامب – بموجب «مجلس السلام» الذي نص عليه قرار مجلس الأمن – أصبح هو السلطة الفعلية والرسمية في غزة، يقرر لها مسارها المستقبلي وخطط تطويرها.. غير ذات الصلة بأولويات الشعب الفلسطيني وحقوقه.
نقلاً عن «الأهرام»