محمد أبوالغار
الحرية.. هي رحلة بحث مستمرة عن تحرير الإنسان من القيود المادية والمعنوية. وفي زمن قديم كانت الحرية هي العتق من العبودية، ثم تطورت إلى الحق في التعبير والحق في الاعتقاد. وعبر أزمنة طويلة تطورت لتصبح هي ترك الحرية كاملة.. لعقل الإنسان ليبدع، ثم ظهرت الحاجة إلى ضبط الحرية.. بضوابط تمنع أن تضر الحرية المطلقة بالمجتمع، وتؤدي إلى منع الآخرين من التمتع بحريتهم. وفي النهاية اتفق الفلاسفة والمفكرون.. على أن الحرية حق أصيل وجوهري لوجود الإنسان.
ولكن هناك معضلات أزلية تحد من الحرية المطلقة. الإنسان الحر من المفروض أن يختار عقيدته، ولكن الواقع أن الإنسان يرث عقيدته من العائلة، ويتمسك بهذه العقيدة، حتى وإن لم يلتزم بتعاليمها. ولا يُعتبر التمسك بهذه العقيدة إخلالاً بالحرية. ففي عصر التنوير، تبلور مفهوم الحرية على أنه استخدام المنطق، والتخلص من التعصب. والحرية تكون للمجموع، وأن نضع سيادة الشعوب على نفسها، وحق الفرد في الاختيار، وتعني التحرر من العوز والخوف، وأن تتوفر له حرية التعبير والعبادة والتجمع السلمي.
والحرية بدون عدالة.. تتحطم ذاتياً؛ فبدون نظام عادل يفقد الإنسان حريته.
قدَّم سقراط الحرية.. على أنها قدرة الإنسان على فعل ما هو أفضل، بينما ربطها أفلاطون.. بالخير والمعرفة، وربطها أرسطو.. بالمعرفة والإرادة. وهكذا عرَّف كبار الفلاسفة الحرية بأنها شيء رائع للإنسان. ووصف غاندي الحرية.. بأنها روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء؟ ولا شك أن ثمنها عظيم. وقال ميخائيل نعيمة: إن الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظاً.
لقد كان وعي الفلاسفة والمفكرين – منذ زمن بعيد – بأهمية الحرية كبيراً، ليصبح الإنسان بها إنساناً. وأنه بدونها يفقد شيئاً رائعاً.. بدفعه إلى أعلى، فالحرية – بشكل مباشر أو غير مباشر – هي الأصل الذي تلتف حوله باقي الأفكار والمفاهيم.. المغلفة بالطابع الوجودي للإنسان، فالابتكار والاختراع والتقدم لن يحدث بدون حرية. والحرية مرتبطة بأشياء كثيرة ممكن أن تعوقها، فلا يوجد شيء اسمه تعليم محايد، فالتعليم يكون أداة لصهر الأجيال الجديدة.. في نظام يخلق إنساناً حراً، ويكون التعليم مبنياً على الحوار والنقاش، وتحفيز الوعي النقدي والتفكير المستقل، ويتشكل الفهم بأن الحرية هي أعمق المفاهيم الإنسانية.
التعليم المبني على التلقين والحفظ الصم، والخوف من المعلم.. يربي طالباً مستكيناً، لا يبحث عن الحرية ولا يدافع عنها، بل يتقبل العبودية أو المهانة، ويتعلم أنواع المداهنة والمديح الكاذب.. لكل مَن هو أعلى منه. ويعامل مَن هو أقل منه.. على أنه إنسان ليس له حقوق. الأمر ينطبق أيضاً على الأسرة؛ فالأب أو الأم أو كلاهما – إذا كانا مستبدين في جميع قراراتهما بالنسبة للأطفال – فالنتيجة كارثية، لأنها تحطم شخصية الطفل؛ الذي يكبر في العمر.. وهو متخيل أن الأصل في الدنيا هو الاستبداد، ولا يعرف شيئاً عن النقاش والحوار، والإقناع والتفاهم، واحترام رأي الآخر.
وبالرغم من أن نداء الحرية، مهم للبشر، ومعروف منذ قديم الأزل، فإنه ظهر بقوة ووضوح في القرن العشرين، وأصبح يرفعه كل سياسي أو حزب أو صاحب أيديولوجيا.. سواء كان يمينياً أو يسارياً، ديمقراطياً أو ديكتاتوراً، فالجميع يتحدثون عن الحرية، وظهرت أقاويل جديدة لتعريف الحرية، فهناك مَن قال إن الحرية هي أن تعيش في أمان أو أن الحرية في أن تجد غذاء كافيا أو يتوفر لك تعليم وعمل.
ويُعتبر رودولف شتاينر هو الذي أسس للحرية في العصر الحديث، ونشر كتابه الذي يعالج مسألة ما إذا كان البشر أحراراً، وبأي معنى. ثم نشر الكتاب الثاني عن فلسفة الحرية، وتوفي في عام 1924. وبعد عشرة أعوام فقط من وفاة هذا الفيلسوف الألماني، ظهر في بلده زعيم أصبح رئيس أكبر حزب عنصري، وأقام أكبر نظام ديكتاتوري عنيف. قام هتلر بالقضاء على كل أنواع الحرية من حرية إبداء الرأي، وحرية الكتابة، وحرية القراءة وحرية الفنان. واندمج الجميع في آلة تعمل لصالح الحرب. وبعد أن قتل آلافاً من شعبه، وسجن آلافاً آخرين، وأباد مئات الآلاف من البشر في أنحاء العالم، انتهى الأمر بتدمير بلده، ألمانيا، ثم انتحاره.
قبل الثورة الفرنسية، كانت كلمة الحرية غير واضحة في أذهان البشر. وكانت الحياة بدون حرية أمراً مسلماً به، فلم تكن هناك حرية داخل الأسرة، أو المجتمع الصغير أو المجتمع الكبير. وكان الإمبراطور أو الملك يأمر.. فيُطاع. بعضهم كان عنده بعض الرحمة أو الأفكار الإنسانية، ولديهم الرغبة في محاولة إصلاح أحوال الناس، ولكن معظمهم كانوا ملوكاً جبابرة.. قتلوا الآلاف وشردوا مجتمعات.
تحدث الشعراء عن الحرية، فقال أبوالقاسم الشابي: أنا شاعر، والشاعر يجب أن يكون حراً.. كالطائر في الغاب، والزهرة في الحقل، والموجة في البحار. وأنشد قصيدته الشهيرة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر
وكانت هذه القصيدة ضمن منهج اللغة العربية في المدارس الثانوية في مصر، وأنا درستها منذ زمن بعيد.
ويقول العالِم النمساوي فرويد: «لا يريد معظم الناس الحرية حقاً، لأن الحرية تتطلب مسؤولية، ومعظم الناس يخافون المسؤولية». وقال برنارد شو: «الحرية أن تختار لنفسك ما تشاء، لكن حين تتجاوز بها حدود الآخرين.. تصبح وقاحة لا حرية». وقال جبران خليل جبران: «لو رأيت الجميع ضدك، والألوان غير لونك، والكل يمشي عكسك.. فلا تتردد، امشِ وراء قلبك، فالوحدة.. أفضل من أن تعيش عكس نفسك.. لإرضاء الآخرين»
وقال عبدالرحمن الشرقاوي، عن أهمية حرية التعبير بالكلام:
أتعرف معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
وقال صلاح جاهين:
أنا شاب لكن عمري ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي مني أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام.
وعجبي.
(قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك).
نقلاً عن «المصري اليوم«