Times of Egypt

الفاشر.. مأساة عربية قابلة للتكرار

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد

تجدَّد الاهتمام بالحرب الأهلية الجارية في السودان الشقيق منذ أسبوعين. صحيح أنه اهتمام يأتي متأخراً.. لما وُصف بأنه أكبر مأساة إنسانية يواجهها العالم في الوقت الحاضر، نظراً للعدد الهائل من البشر الذين تعرَّضوا لانتهاكات مخزية لحقوقهم الأساسية.. إناثاً وذكوراً، رجالاً وأطفالاً، صغاراً وشيوخاً، ولقرابة 12 مليوناً.. اضطروا للنزوح الداخلي أو الهجرة، وقرابة ثلاثين مليوناً.. يواجهون خطر المجاعة. وهذا الاهتمام – بكل تأكيد – أمر محمود؛ لعلَّه يُفضي إلى عودة السلام لربوع السودان، وهو أمر يبدو مستبعداً.

ولكن سبباً آخر يستدعي الاهتمام بهذا الصراع الدموي، وهو أنه قابل للتكرار، لأن الظروف التي أدَّت إليه.. ظاهرة في أماكن أخرى في الوطن العربي وخارجه، ولأن تعدد وجوهه يجعل من الصعب الإمساك بخطوط السيطرة عليه، فضلاً على أنه، على الرغم من كثرة الأطراف الخارجية.. المنخرطة فيه، فإن تناقض مصالحها.. يجعل الاتفاق بينها عسيراً، كما أن درجة اهتمامها بتسويته.. ليست واحدة، بل إن مصلحة بعضها هي استمراره.

من المسؤول عن ظهور هذا الصراع؟

السؤال الأول هو عن المسؤولية عن ظهور هذا الصراع بين الجيش السوداني، وبين الميليشيات المسلحة المعروفة بـ «قوات الدعم السريع»؟ أليس من المدهش أن يكون الجيش السوداني.. هو المسؤول الأول عن ظهور غريمه؟ تاريخ محمد حمدان دقلو المشهور بـ «حميدتي» شهير. هو قائد تلك العصابات المسلحة «الجنجاويد» التي ترجع أصولها إلى القبائل العربية.. من الرعاة في إقليم دارفور، والتي استعان بها حاكم السودان عمر البشير، لمواجهة ثورة قبائل المساليت والفور والزغاوة.. من المزارعين ذوي الأصول غرب الأفريقية، ضد تهميشهم في ولاية دارفور في 1993، ثم ارتفع شأنه طوال فترة البشير، وبعد الإطاحة بالبشير في سنة 2019، ليُعين حميدتي.. جنرالاً، ثم نائباً للمجلس العسكري الانتقالي – الذي حكم السودان من أبريل 2019 حتى مايو 2023 – عندما غضب على ترتيبات تنظيم البيت السوداني.. بتوحيد التنظيمات المسلحة تحت قيادة الجيش، فأعلن حربه على سلطة الخرطوم. 

مثل دقلو ليس فريداً؛ ففي حالات أخرى.. استعانت سلطات الدولة بجماعات إجرامية، لكي تتولى القيام بالمهام «القذرة».. التي تريد الترفع عنها. فعلها فلاديمير بوتين مع ميليشيات فاجنر.. في أفريقيا، وفي أوكرانيا. وفعلتها حكومة الولايات المتحدة مع الكونترا في نيكاراغوا، ومع شركة بلاكووتر التي أدارت سجن أبوغريب في العراق.. خلال فترة الاحتلال الأمريكي له بعد سنة 2003، ودخلت حكومات أخرى – عربية وغير عربية – في ممارسات شبيهة. ولاء هذه الجماعات الإجرامية ليس مضموناً – بكل تأكيد – لمن تولى رعايتها في ظروف مشابهة، وانقلابها عليه متى يحين الوقت الملائم.. ليس مستبعداً. ولكن ذلك – في حد ذاته – لا يحول دون تكرار هذه الحكومات نفس المحاولات.

الوجوه المتعددة للحرب في دارفور

الحرب الدائرة في دارفور.. لها جذور متنوعة، وعندما تنجح بعض القوى في الإمساك ببعضها، تنمو الجذور الأخرى وتتفرَّع؛ طبعاً هناك الشق الشخصي في هذه الحرب، وهو طموحات حميدتي.. أن يتولى السلطة في الخرطوم، ولكن هذا الجانب هو الأقل أهمية. الأهم منه، أنه يستند إلى الولاء الإثني للقبائل التي ينتمي إليها – وتشمل قبائل الأبالة في شمال دارفور، والبقارة في جنوب دارفور – وكان زعماء هذه القبائل.. ذات الأصول العربية، قد عقدوا تحالفاً موسعاً في 1987 سُمي بـ «التجمع العربي»، ضم 27 قبيلة، ثم توسَّع ليشمل بعض قبائل كردفان ذات الأصول العربية، ولها امتدادات خارج السودان. وهكذا يمكن لدقلو.. أن يستخدم هذا الولاء القبلي، لتجنيد المزيد من الأنصار.. في حالة أي نكسة تعانيها ميليشياته المسلحة. 

ومثل هذا الولاء القبلي – الذي يستند إلى رابطة الدم – هو الأكثر صموداً في حالات النزاع المسلح، وحتى في حالات الهزيمة، لأنه لا يرجع إلى أي حسابات عقلانية، ولكن حسابات المصلحة ليست غائبة. فقد تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على موارد اقتصادية مهمة في مساحات واسعة من جنوب دارفور الذي وقع تحت سيطرتها، من أهمها منجم للذهب وتجارة الصمغ العربي، وذلك فضلاً عن الدعم الخارجي الذي تتلقاه. بل لا يعدم أنصار الدعم السريع أن يجدوا مبرراً أيديولوجياً لاستمرارهم في الحرب ضد الجيش السوداني، فهم يتهمون قيادة الجيش السوداني بأنها استمرار لنفس الحكم الإسلامي الذي عرفه السودان في ظل عمر البشير، وهو حكم سانده دقلو. والمدهش أن مثل هذا القول يلقى قبولاً من بعض القوى السياسية المدنية السودانية؛ فالجناح السياسي للدعم السريع يشمل قيادات مدنية شاركت في حكم السودان بعد سقوط البشير، وفي مقدمتها د. عبد الله حمدوك الذي كان رئيساً لوزراء السودان، ثم تحول حسب تقارير عديدة إلى انتقاد الجيش، واتخاذ مواقف قريبة من مواقف الدول المصنفة بأنها أهم القوى الخارجية المؤيدة لقوات الدعم السريع، فضلاً عن حركات سياسية عديدة دارفورية ومن جيش تحرير السودان. ولكن الوجه الآخر الجدير بالاهتمام في حرب دارفور هو مواقف القوى الخارجية.

قوى خارجية ذات مصالح متعارضة

خطورة التدخل الخارجي في هذا الفصل من الحرب الأهلية في السودان ليس أنه سبب هذه الحرب، إذ تعود معظم الصراعات الداخلية في الدول العربية إلى صعوبة الاتفاق بين أطرافها المحليين الذين يعتبرون الصراع بينهم مباراة صفرية لا تُحسم إلا بكسب مؤكد لواحد منها في مواجهة خسارة الطرف الآخر، ولكن خطورته ترجع إلى تفاوت درجة اهتمام هذه الأطراف بتسوية الصراع، وأن الأكثر اهتماماً منها بذلك ليس بالضرورة هو أكثرها تأثيراً على مساره.

لا تقل الأطراف المنخرطة بدرجة أو أخرى في هذه الحرب عن عشرة أطراف إقليمية ودولية؛ فمن بين جيران السودان هناك تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى والإقليم الشرقي في ليبيا، فضلاً عن إثيوبيا وإريتريا في الشرق وأوغندا في الجنوب، ومن الأطراف الإقليمية كل من مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ومن الأطراف الدولية الولايات المتحدة، وجرى ذكر كل من روسيا وحتى الصين في بعض التقارير. كما بُذلت محاولات لتسويته من قبَل كل من منظمة «إيجاد» والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومجلسها لحقوق الإنسان. ولكن الدول الأكثر متابعة ودأباً على الانشغال به هي الرباعية التي تتألف من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر. 

ويمكن رسم خريطة مواقف بعض هذه الدول على النحو التالي: تبرز المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا باعتبارها من الدول المتعاطفة عموماً مع الحكومة السودانية وقواتها المسلحة. وتشير تقارير عديدة إلى أن دولة الإمارات هي الطرف الخارجي الأكثر تأييداً لقوات الدعم السريع رغم نفي حكومة الإمارات لذلك، وبذلت الولايات المتحدة جهوداً لإقناع طرفي الحرب بقبول هدنة مدتها ثلاثة شهور، والسعي بعدها – ولمدة تسعة شهور – لإيجاد تسوية سلمية له. ربما تتعاطف الحكومة التركية مع القوات المسلحة السودانية بسبب ماضيها كسند لنظام يدعي أنه إسلامي ومساندة تنظيمات إسلامية سودانية له. ويعود تأييد السعودية لها لحرص السعودية على كسب النفوذ في هذه الدولة الأفريقية والعربية الكبيرة، وتخشى الولايات المتحدة امتداد النفوذ الروسي والصيني لها. وتشير بعض التحليلات إلى أن عداء دولة الإمارات لنظام الخرطوم يعود إلى ماضيه الإسلاموي.

أسباب اهتمام الحكومة المصرية بهذا الوضع لا تخفى؛ فالسودان دولة جوار تشترك مع مصر في مجرى النيل. اضطراب الأوضاع في السودان سيجلب على الحكومة المصرية هجرة مئات الآلاف من السودانيين، ويُضعف موقفها في مواجهة إثيوبيا ومشروعاتها على النيل، المصدر الأساسي للمياه في مصر. كما أنه سيضع حكومة السودان في يد قوى سياسية مثل الدعم السريع لم تُخفِ عداءها لمصر بل وأسرها لجنود مصريين، وهو ما يمثل خطراً على الأمن الوطني المصري.

صعوبة حسم هذه القوى الخارجية لمواقفها إزاء هذا الصراع لا يعود فقط لاختلاف مصالحها، ولكن لأن درجة اهتمامها به متفاوتة. استمرار هذا الصراع يضر مباشرة بالأمن الوطني المصري، ولكنه لا يضر مباشرة بالأمن الوطني لدولة الإمارات أو المملكة العربية السعودية أو الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك تبدو هذه الدول الثلاث أقل انزعاجاً به، حتى وإن كان وزير الخارجية الأمريكي قد أظهر في الأيام الأخيرة قلقاً من استمراره، لكنه لا يقارن حتى بمسألة تهريب مخدرات من دول أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة، وهو ما يبدو الشغل الشاغل للقوات البحرية الأمريكية خلال الأسابيع الأخيرة. ومع ذلك، وبحساب ما تنفقه كل من هذه الحكومات على هذا النزاع، فإن أكثرها اهتماماً به ليست هي أكثر من ينفق عليه.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة