Times of Egypt

ناسُ السُّودانِ وثَمَنُ الحَرْب

M.Adam
عادل سليمان

(مَطَرُ «بُون» بَرْق)

عادل سليمان

أثناءَ جَوْلَتِنا في الخَرطوم، لم نرَ إلا القليلَ من المباني الّتي سَلِمَتْ من الدَّمارِ والحريق. وصلناها قادمين من مدينةِ أُمِّ دُرمان في الظّهيرة، ورغم سُطوعِ الشّمسِ.. بضيائِها الغامِر وحرارتِها اللاسِعة، إلا أنَّ المدينةَ بدت كمدينةِ أشباح، وخيَّم عليها سكونٌ مُريب؛ وقد خَلَتْ شوارعُها من النّاسِ والحركة إلا من نفرٍ قليلٍ هنا وهناك، بعضُهم كان يَتَحلَّق – تحتَ بناياتٍ مُهدَّمة – حولَ برّادِ الشاي، لم أكن أدري بالضبط ماذا يفعلون هنا، فالمدينةُ تَخلو من المياهِ والكهرباءِ والخِدْمات.. بعد أن ضُرِبَتْ شبكاتُها ومَرافِقُها الأساسيّة.. ودُمِّرَتْ. ربما كانوا من أوائلِ العائدين إلى العاصمة.. بعد أن حَرَّرَها الجيش.

image

الكاتب أمام فندق المريديان المدمر في الخرطوم

وعندما وصلنا إلى شارعِ القصر.. في قلبِ العاصمة – وهو أهمُّ شوارعِها وأكثرُها اتِّساعًا، حيث توجد فيه مقار أهمُّ الوزارات وبعضُ السِّفارات، ويقع في نهايتِه القصرُ الجُمْهُوري – اتَّجهنا مع مرافِقينا إلى شارعٍ جانبي؛ حيث يوجد فندقُ المريديان – أو ما تبقّى منه – حيث كانت قوّاتُ الدَّعمِ السريع اتَّخذَتْ منه مركزًا رئيسيًا لها، وبدا الفندقُ مُهدَّمًا تمامًا.. وكأنَّه على وشكِ السُّقوط. تقدَّمنا بحذرٍ فوق بقايا الجدرانِ المُهدَّمة، وبين أعمدة الحديدِ المُحترقة الساقطة على الأرض، وبقايا عرباتٍ مُصفَّحَة، ومِئاتٍ من «خراطيشِ» الطَّلقاتِ الفارغة المُتَناثِرة في المكان.

كان مرافِقونا حريصين أن نرى حمّامَ السِّباحةِ – الّذي تحوَّل إلى مَقبَرة امتلأت بالجُثَث حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا، كما أخبرَنا مرافِقونا، وأُزيلَتْ عندما بدأ الجيشُ في حملةِ تطهيرٍ واسعةٍ للمدينة بعد طردِ قوّاتِ الدَّعمِ السريع – ولكن أكثرَ ما استرعى انتباهي هو جملةٌ كُتِبَتْ بخطٍّ أسود على أحد جدران ما تبقّى من الفندق وتقول «مَطَر بُون بَرْق»

image 17

عبارة مَطَر بدون بَرْق التي كتبها أفراد ميليشيا الدعم السريع بمنطوق اللهجة المحلية

وعندما سألتُ مرافِقَنا عن معناها قال من كَتَبَها كان يقصد «مَطَر بدون بَرْق» وهو شعارُ قوّاتِ الدَّعمِ السريع.. الّذي يردِّده مُقاتِلوها قبلَ وبعدَ هجماتهم الخاطِفة، وأثناءَ عمليّاتهم العسكريّة المُرعِبة، وكذلك في مشاهدِ استعراضِ السِّلاح. وأوّلَ ما جال في ذهني عندما قرأتُ هذه العبارة، هو أنَّ كاتبَها لا يُجيدُ اللغةَ العربيّة، وربما يجهلُها تمامًا، وقد يكونُ أحدَ المُرتَزِقةِ الّذين انضمّوا إلى مقاتلي الدَّعمِ السريع.. من دولِ الجوار في جنوبِ السُّودان، أو غيرِها من الدُّول حيث انتشرت اللغةُ العربيّة، بشكلٍ ضعيف، مع دخولِ الإسلام في هذه المناطق من أفريقيا.

ورغم أنَّ العبارةَ ليست شعارًا رسميًّا مُعلنًا، فإنّها سرعان ما تحوَّلت إلى رمزٍ لغويٍّ للرُّعب.. في الوعي الجمعيّ السُّوداني، في دلالةٍ على الهجومِ المُباغت، والقتلِ والعُنف الّذي يأتي بلا إنذار، كما تحملُ تهديدًا نفسيًّا مُخيفا للخُصوم.

هذه الصُّورة المُرعِبة عن قوّاتِ الدَّعمِ السريع.. ليست بالجديدة، فهي تعود إلى مليشيّات «الجنجويد» العربيّة، وهي النّواة الّتي تشكَّلت منها قوّاتُ الدَّعم في النّصف الأوّل من عام 2003، وقد استخدمتها الحكومةُ السُّودانيّة بقيادة الرّئيس السّابق البشير لقمع حركاتِ التمرُّد من قبل القبائل الأفريقيّة في دارفور. وقد جاءت تسميتُهم بـ «الجنجويد» – أي (الجنُّ الّذين يمتطون الجياد) – نظرًا لسرعتهم في القتال، وخفَّتهم في الكرِّ والفَرِّ، والعُنف الشديد في مواجهة الخُصوم، وتحولت مساندتُهم للجيش إلى هجومٍ واسعٍ ومنهجيّ على قرى القبائل الأفريقيّة في دارفور، خاصّة قبائل الفور والمساليت والزَّغاوة، ومارسوا ضدَّهم القتلَ الجماعيَّ والاغتصاب وحرقَ القرى والتهجيرَ القسريّ.

والصِّراع بين القبائل العربيّة والقبائل الأفريقيّة في دارفور.. صراعٌ قديم، وظهر مصطلح «الجنجويد» شعبيًّا قبل عام 2003، ليصف مجموعاتِ النَّهبِ المُسلَّح.. من رُعاة قبائل العرب الرُّحَّل – ومن أهمِّها قبائل الزُّريقات الّتي ينتمي إليها «حميدتي» القائد الحالي لقوّات الدَّعم السريع – عندما  كان مقاتلوها يهاجمون القرى الزراعيّة المُستقرّة للقبائل الأفريقيّة.. في أوقاتِ الجَدْبِ والجفاف في صراعٍ على الأرض والماء ومساراتِ الرَّعي. واشتدَّت تلك الهجمات عُنفًا في سنواتِ الجفافِ والتَّصحُّر في السبعينات، حتى منتصف الثَّمانينات من القرن الماضي.

وعندما اندلعت احتجاجاتٌ شعبيّة واسعة ضدَّ نظام الرّئيس السّابق عمر البشير، بعد قرارِ إلغاء الدَّعم عن الوَقود والغاز في سبتمبر عام 2013، جاء البشير بمقاتلي «الجنجويد» إلى العاصمة الخرطوم، تحت مُسمّى قوّات الدَّعم السريع.. لقمع هذه الاحتجاجات. وكانت تعمل تحت إشراف الاستخبارات السُّودانيّة.. بوجودٍ محدود في العاصمة. ولكنها سرعان ما قَوِيَتْ واستقلَّتْ، وصارت تتبع البشير مباشرة.. كقوّات حمايةٍ خاصّة له.

وخلال لِقائنا مع الفريق أوّل ياسر العطّا، مساعد القائد العام للجيش السُّوداني وعضو مجلس السِّيادة السُّوداني، قال إنَّ البشير استخدمهم لحماية النظام السّابق ضدَّ أيِّ انقلابٍ مُحتَمَل، ممّا أعطاهم ثقةً بأنهم أعلى منزلةً، وأكثر قُربًا من الجيش الوطني. وبينما كان الجيش يحصل على 20٪؜ من الميزانية، وتحصل المخابرات على 15٪؜ كان الباقي يذهب إلى قوّات الدَّعم السريع. وقد إزدادت  قوّةً وعتادًا عندما أمر البشير في عام 2016، بدمجهم مع قوّات حرس الحدود بحيث وصل عددهم إلى حوالي 80 ألف مقاتل. وعندما قامت الثورة في السُّودان في ديسمبر عام 2018، استعان الجيش بهم، وأعطاهم صلاحيّات – وافق عليها البرلمان –  بتجنيد المزيد من القوّات.

وعندما اندلعت الحرب الحاليّة، تجاوز عدد المقاتلين في الدَّعم السريع.. المائة ألف مقاتل، حسب تقديرات الفريق أوّل ياسر عطّا. وكثيرٌ من هؤلاء من المقاتلين المُرتَزِقة الذين تمَّ تجنيدُهم من دولٍ أجنبيّة مثل أوكرانيا وكولومبيا وروسيا، من مقاتلي مجموعات فاغنر، إضافةً إلى مرتزقة من دول إفريقيّة عديدة كالصومال وتشاد وليبيا. ولكن الرقم اللافت في هذه الحرب، كما جاء في حوار الفريق أوّل ياسر عطّا، هو مقتل 150 ألف مدنيّ من أبناء الشَّعب السُّوداني.

شارك هذه المقالة