نبيل عبدالفتاح
أحد أكثر الأسئلة تداولاً وتردداً.. على أفواه الملايين في الحياة العربية ما بعد الاستقلال: لماذا فشلت بعض الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة معاً.. في أداء الوظائف المنوطة بها، لا سيما ترسيخ القيم الديمقراطية والحريات العامة والشخصية؟
الظاهرة الحزبية ما قبل الاستقلال في مصر – على سبيل المثال – اكتسب بعضها زخماً وشعبية، لكفاحها من أجل الاستقلال الوطني والدستور معاً.. في مواجهة القصر الملكي، أو سلطة الاحتلال البريطاني، وهو ما مثله حزب الحركة الوطنية المصرية «الوفد»، ومن ثم كان أحد أبرز مراكز التعبئة السياسية لغالبية الطبقة الوسطى.. الناشئة بعد 1919، واكتسب هذا الزخم الشعبي، من خلال رجال القانون والسياسة، والأفندية وبعض من الطبقة شبه الإقطاعية وشبه الرأسمالية؛ ثم سيطروا على مقاليد القيادة الوفدية وأضعفوا الحزب.
بعض الأحزاب السياسية الأخرى.. كانت صنيعة الاحتلال والقصر الملكي، وأداة لهم في الحكم، أو المعارضة، وبعض الجماعات الإسلامية السياسية.. كانوا جزءاً من هذه السياسة، وذلك في مواجهة الحركة الوطنية، وأحزاب اليسار الماركسية المحظورة.
عقب حركة يوليو 1952، ووصول الضباط الأحرار إلى سدة السلطة، تم تأميم الصراعات الاجتماعية والسياسية، وإلغاء الأحزاب السياسية، لمصلحة الحزب الواحد من تنظيم هيئة التحرير 1953، الاتحاد القومي 3 نوفمبر 1957 بعد دستور 1956، إلى الاتحاد الاشتراكي العربي 1962، حتى التعددية داخله؛ من خلال المنابر الثلاثة في عهد السادات، إلى نظام الحزبية الشكلية المقيدة، التي قامت بهندستها سياسياً أجهزة الدولة الأمنية.
لماذا فشلت الظاهرة الحزبية في العالم العربي، وشكلت أحد مظاهر تراجع السياسة، وضعف التقاليد السياسية الديمقراطية، والثقافة السياسية التعددية؟
ثمة عديد الأسباب.. وراء ظاهرة الأحزاب الورقية الهشة عربيا، يمكن رصد بعضها على النحو التالي:
1 – انفصال الأحزاب عن قواعد اجتماعية تمثلها، وتعبر عنها في البناء «الطبقي» وشرائحه المتعددة، وذلك نظراً للقيود القانونية التي تحول دون تمددها الاجتماعي.. من خلال التجنيد السياسي لقواعد لها، في عموم الولايات، أو المحافظات والمدن والأرياف والبوادي.
2 – النزعة القيادية السلطوية للأحزاب.. كجزء من الثقافة السياسية السلطوية السائدة، ومن ثم غياب التقاليد والثقافة الديمقراطية داخل هياكل بعض الأحزاب؛ سواء السلطوية الحاكمة – لاسيما في ظل النظم العسكريتارية – أو المعارضة معاً!
3 – غلبة الأيديولوجيا السياسية، والشعاراتية.. في البرامج الحزبية الاقتصادية والاجتماعية، وانفصالها عن الواقع ومحمولاته التاريخية والاجتماعية، وإرث التخلف التاريخي المتراكم، ومن ثم فقدت تأثيرها في وضع السياسات العامة، أو في الواقع. الأحزاب السلطوية الحاكمة لا تأثير لها في الرقابات البرلمانية، أو سياسات التشريع، لأنها تعتمد على السلطة التنفيذية، ومشروعات القوانين التي تمررها.
4 – التوظيفات السياسية السلطوية للدين، أدت إلى توظيفات مضادة للدين.. من قبَل الجماعات الإسلامية السياسية العربية؛ خاصة في تعبئة قواعدها، والتمدد الأفقي في المدن والأرياف والبوادي، وفي التجنيد القاعدي لها، وأيضاً في ممارسة الضغوط على السلطات الحاكمة، والأحزاب السياسية السلطوية، وعدم إيلاء الأحزاب الحكومية والمعارضة الشكلية.. لمسألة ثقافة الدين الشعبي ومورثاته النقلية، وضرورة العمل على تحليلها، وتفكيكها ونقدها.. من خلال خطابات شعبية تؤثر على الجموع الشعبية، وشرائح الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية. من ثم غياب خطاب نقدي.. لتوظيف بعض السلطات الحاكمة العربية للدين سياسياً.. في بناء نظام الشرعية، وفي وظائف التعبئة والتبرير السياسي لسياساتها، وقراراتها، وأيضاً في الضبط الاجتماعي، ومن ثم استخدامها الدين أداة رقابية على الفكر الماركسي، والليبرالي، والإبداعات الأدبية والفنية، بل وفي محاكمات بعض المفكرين والمثقفين والمبدعين في عديد المجالات، وذلك لقمع العقل النقدي الحر.
5 – ارتكاز الأحزاب السياسية على بعض المكونات الدينية والمذهبية، والقبائلية والعشائرية والطائفية والمناطقية.. في بعض الدول العربية ومجتمعاتها الانقسامية، وتعبيرها قيادياً وقاعدياً عن بعض هذه المكونات.
6 – ضعف مستويات تكوين غالب قادة الأحزاب السياسية السلطوية والمعارضة، وأعضاء البرلمانات، على نحو ما يظهر في لغتهم اللاسياسية، وخطاباتهم العفوية السطحية، ومن حيث غياب الثقافة، والرأسمال السياسي والخبراتي.. المطلوب في العمل السياسي.
7 – الاعتماد الحزبي في الانتخابات العامة على البنيات القبلية والعشائرية والمناطقية.. في الوصول إلى عضوية البرلمانات، وتكريس النزعات العصبوية داخل السلطات التشريعية، والأحزاب السلطوية، والمعارضات الشكلية، وهو ما يكرس الثقافة اللا ديمقراطية، ومفهوم السياسة الحداثي.
8 – انفصال غالبُ العقل والثقافة الحزبية السلطوية والمعارضة.. عن التغيرات في الإقليم العربي والشرق أوسطى، والعالم المتغير.
9 – ازدياد الفجوات الجيلية.. داخل الأحزاب السلطوية والمعارضة – قبل وما بعد الربيع العربي – وإدارة غالب أجيال (Y)، و(Z)، وآلفا.. ظهورها للأحزاب السياسية، ومن ثم سادت الشيخوخة السياسية والجيلية في الأحزاب السلطوية التابعة، والذيلية المعارضة.
10 – مع الثورة الرقمية، انتقلت أنشطة الأحزاب وقياداتها من الواقع الفعلي.. إلى الحياة الرقمية، عبر خطاب الصور، والفيديوهات الوجيزة، والمنشورات والتغريدات.. دونما فاعلية في الواقع الفعلي، ولامبالاة الجماهير الرقمية الغفيرة.. بأخبار وخطابات الأحزاب على الحياة الرقمية، ولا من خلال الإعلام الورقي، الذي تراجع دوره نظراً لعدم تطوره.
نقلاً عن «الأهرام»