عمر إسماعيل
في التاريخ المصري الحديث.. لحظات لا تمر مرور الكرام، بل تُرسَم في الذاكرة الوطنية.. كعلامات على طريق النهضة، كأنها رسائل من الماضي إلى الحاضر؛ بأن مصر – مهما عصفت بها العواصف – لا تنكسر، بل تنهض في كل مرة.. لتكتب فصلًا جديدًا من مجدها.
كانت قناة السويس.. في عهد الخديوي إسماعيل عام 1869، لحظة ميلاد لمصر الحديثة أمام العالم. وها هو المتحف المصري الكبير.. في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2025، يعلن ميلاد مصر الحضارية الجديدة.. في القرن الحادي والعشرين.
في الحالتين، لم يكن الهدف مجرد مشروع إنشائي ضخم، أو حدث احتفالي، بل كانا معًا.. تجسيدًا لفكرة المجد القومي، وإعلانًا لهوية مصر أمام العالم.
فقد أراد الخديوي إسماعيل.. أن يقدّم مصر كدولة تنتمي إلى العصر الحديث، فافتتح قناة السويس، وجعل احتفالها أسطورة.. شاركت فيها أوروبا كلها، حتى كادت القاهرة تتحوّل إلى باريس الشرق.
أما الرئيس السيسي.. فقدّم مصر كقوة حضارية متجددة، تربط بين عبقرية المصري القديم، وروح المصري المعاصر؛ فافتتح المتحف المصري الكبير أمام أنظار العالم.. ليؤكد أن مصر لا تعيش على أمجاد الماضي، بل تصنع مستقبلها بيدها.
كلا الرجلين.. قرأ التاريخ على طريقته؛ الخديوي إسماعيل.. رأى أن التحضّر هو بوابة الاستقلال السياسي والاقتصادي، بينما يرى السيسي.. أن الهوية الحضارية هي درع السيادة في زمن العولمة.
وما بين عبور القناة وافتتاح المتحف، يتجلّى المعنى ذاته في صورتين مختلفتين: إرادة مصرية خالدة، لا تملّ من إعادة تعريف ذاتها أمام العالم.
ولأن الاقتصاد كان – ولا يزال – قلب الحلم الوطني، فقد مثّل المشروعان رافعة اقتصادية.. بامتياز.
فافتتاح قناة السويس.. غيّر موقع مصر في خريطة العالم التجاري، وجعلها مركزًا يربط الشرق بالغرب، وأوجد مصدر دخلٍ ضخمًا للدولة.. رغم ما رافقه من التزامات مالية باهظة.. في زمن الخديوي إسماعيل.
أما المتحف المصري الكبير، فهو مشروع اقتصادي وحضاري فريد من نوعه، مدينة ثقافية وسياحية على أطراف الأهرامات، تستقطب ملايين الزوار سنويًا، وتفتح أمام الاقتصاد المصري أبوابًا من العملة الصعبة، وفرص التشغيل والاستثمار.
الاختلاف الوحيد، أن الخديوي إسماعيل فتح القناة لمرور التجارة، بينما فتح السيسي المتحف ليعيد تدفّق الوعي والحضارة.. من مصر إلى العالم.
وإذا كانت قناة السويس قد مثّلت – في زمانها – رمزًا لعبور السفن بين قارتين، فإن المتحف المصري الكبير اليوم.. هو رمز لعبور آخر؛ عبور الزمن بين حضارتين، من ماضي الأجداد.. إلى مستقبل الأبناء.
في الأولى كانت مصر تقول للعالم: «أنا قلب التجارة»، وفي الثانية تقول: «أنا قلب الحضارة».
ومن هنا يظهر التشابه العميق بين احتفالين.. يفصل بينهما قرن ونصف؛ فكلاهما لم يكن مجرد حفلٍ رسمي، بل بيانًا مصريًا للعالم.. عن من نحن، وماذا نستطيع، وإلى أين نسير.
غير أن الفارق الجوهري بين اللحظتين، يكمن في تأثيرهما على الشعب.
… في عهد الخديوي إسماعيل، عاش المصريون لحظة انبهار بالعالم، لكن سرعان ما أثقلت كاهلهم ديون القناة، ومظاهر البذخ الأوروبي.
أما اليوم، فإن المتحف الكبير يأتي في سياق محاولة مصرية جادة.. لاستعادة التوازن بين الفخر القومي والإصلاح الاقتصادي، في ظل تحديات الغلاء وضغوط المعيشة.
ومع ذلك، يشعر المصريون – عن حق – بأن بلادهم تعود لتقف في صفوف الأمم العظيمة؛ لا بفضل القروض أو القصور، بل بفضل الإرادة والعمل والمعرفة.
وقد يظن البعض أن هذه الاحتفالات.. لحظات عابرة، تدعو إلى الفخر، ثم تنتهي بانتهاء الحفل. غير أن التاريخ لا يُقاس بعدد الأيام، بل بما يتركه اليوم من أثر في الغد.
فاحتفال الخديوي إسماعيل.. كان بذرة حلم لمصر حديثة، رغم أن الحلم تعثّر لاحقًا بالاحتلال والديون. بينما احتفال الرئيس السيسي.. هو إعلان أن مصر تدخل مرحلة جديدة، من التوازن بين الأصالة والمعاصرة.. بين الإرث الحضاري والقدرة الاقتصادية.
إن ما بين قناة السويس والمتحف المصري الكبير.. خيطًا ذهبيًا واحدًا: الإيمان بأن مصر لا تتكرر، بل تتجدد.
في كل مرة، يظن البعض أن زمن العظمة قد مضى، لكن مصر ترفع رأسها لتقول بثقة وكرامة:
“ها أنا ذا من جديد… أمّ الحضارة، وبنت المستقبل.”