Times of Egypt

السلام الذي يُنهي كل السلام

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي

كُتِب هذا المقال.. بعد لحظات من الخطاب المُطَوَّل.. الذي ألقاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الكنيست الإسرائيلي، الذي أتى في إطار الزخم الهائل، الذي يحشده.. لتوجهه الجديد حيال المنطقة العربية.. والتي إن لم تَنصَع صاغرة، فلتَنصع احتيالاً.

تجاوزت مدة الخطاب الساعة بقليل.. ظاهره كان منطق التنادي على السلام.. الذي بَزغ فجره – كما يُروج، أو كما يأمر «ترمب» – وجوهره الاحتيال من أجل إنقاذ إسرائيل.. من حافة الضمور التاريخي؛ كفكرة استعمارية ذات جدوى، من ثم تحللها.. كما انتشال شعبها اللقيط من قبضة النبذ التام.. من كافة شعوب الأرض، في تكرار تاريخي.. يكاد لا ينقطع في المسألة اليهودية.

بداءة.. لا يستطيع عاقل ذو ضمير، أن يزايد على حقن دماء طفل أو شيخ فلسطيني، قد نجا بوقف المقتلة الإسرائيلية.. أو على حق رضيع فلسطيني، في أن يهجع في حضن أمه.. بعد ليالي الفزع، إثر إلجام آلة الرعب الإسرائيلية..

كما لا يحق لإنسان.. ذي نخوة أو بصيرة، أن يزايد على حق شعب.. مستضعف تحت الاحتلال، في المقاومة.. من أجل حقه في الحياة والحرية والوطن.

في 29 سبتمبر الماضي، أعطى الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» إشارته.. لوقف المقتلة الإسرائيلية، تحت عنوان «خطة سلام الحرب في غزة». وهي الإشارة التي تأخرت كثيراً وتململت كثيراً.

لم تأتِ إشارة «ترامب».. بوقف الإبادة العرقية الممنهجة، إقراراً بفداحة ما أدت إليه. فهو من دَعَم – بالسلاح والسياسة – المجازر الإسرائيلية في فلسطين، وهو من بارك العربدة الإسرائيلية في الإقليم، التي تمادت حتى طالت الحليف في قطر. وهو أيضاً من تُحَرِّكه غطرسة القوة.. التي تُلزم بأحط دركات الوحشية.. تنكيلاً بالخصوم، وتأكيداً للردع والعلوِّ الإسرائيلي. وقد جاء ذلك في خطابه نَصاً.

كما لم تأتِ تغيراً في نظرة الغرب والولايات المتحدة.. للعرب والمسلمين، وعلى كونهم ليسوا أكثر من هَمَلٍ مكتظ بالموارد، عالةً على الحضارة، يتوجَّب التخفف من مساوئهم، بقدر ما يتوجب التغول على مقدراتهم، ونزح ثرواتهم.

وظنِّي أنَّ الإشارة المتأخرة، لم تأتِ تنازلاً عن أحلامه في إطلاق يد الطغمة الصهيونية.. على ما تبقَّى من أرض فلسطين؛ وفقاً لمقولته المأثورة.. «إن إسرائيل دولة صغيرة، وآن لها أن تتوسع». وقد عَرَّج على ذلك في خِطابه المسموم أيضاً.

هو ذاته «ترامب».. الذي كان حاداً جاداً في الحديث عن ضرورة تهجير فلسطينيي غزة، والضفة في تالٍ. وهو وإدارته.. من مارس الضغوط على أنظمة حكم أفريقية بائسة، للقبول بتوطين المهجَّرين.

ما الذي جرى إذاً..؟! فكانت هرولته للقاء قادة عرب ومسلمين.. على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم هرولته لاقتراح خطته. ثم هرولته اليوم لِيُعلِن- مُنفرداً – أن السلام قد حلَّ على الإقليم.. بعد ثلاثة آلاف عام؛ حسبما ثَرثَر.

أتى التحوُّل في توجه «ترامب»، واحتياله المتأخر.. كتصرُّف المضطر في اللحظة الأخيرة، لإنقاذ إسرائيل من أن يتم لفظها بالكلية.. كجسد سرطاني غريب، ليس فقط على الإقليم، بل على مستوى العالم بأسره.. وهو المصير الآتي لا محالة، وإرهاصاته جادة لا تقبل تأويل.

أتى تحول ترامب اضطراراً.. بعدما لاح في الأفق، ما لا يمكن أن تطيقه الولايات المتحدة – وهو تفلُّت خيوط الهيمنة على الإقليم.. من براثنها، جراء سلوك العصبة الصهيونية، بعد أن دُوِلَت القضية الفلسطينية.. كما لم يأت في أسوأ كوابيس أمريكا وإسرائيل. أما الأنكي وقعاً من تدويل القضية، والأكثر إفزاعاً لـ«ترامب» وجوقته.. كان يوم صارت قضية فلسطين – كل فلسطين – وليست غزة وحدها، هي قضية الضمير الأولى للإنسانية على الأرض.

وذلك كله يحدث.. تحت سمعه وبصره، وبعد أن استفذت كل الطاقات الصهيونية – مالاً وإعلاماً ونفوذاً ووقاحة وقتلاً – ترهيباً لكل صوت حق حول العالم، وتشهد بذلك ساحات جامعات.. اعتُقِلَ طلبتها، وكيانات اقتصادية.. سُرِّحَ موظفوها، ومهاجرون شرعيون.. شُرِّدوا قسراً، بل وأصوات أمريكية.. أُخرِست بالقتل.

فبعد أن طغت ضلالات اليمين الإسرائيلي.. على الأسس البراجماتية لنشأة إسرائيل؛ كمشروع استيطاني ذي دور وظيفي للغرب. وتوهمت لنفسها دوراً.. في تحديد أطر وظيفتها؛ بما يتجاوز الغرب والولايات المتحدة.. حتى في مدى الوحشية والقتل. وبدا أن تلك العصبة الأجيرة.. قد تسبَّبت في إحراج أسيادها ومنشئيها؛ بما قد يصل بهذا المشروع لفقدان جدواه، ويدفع إلى ضرورة تصفيته، أو تركه للضمور التاريخي.. كان على الولايات المتحدة – ممثلة لأسياد إسرائيل ومنشئيها – التدخل للحيلولة دون ذلك المصير. فكانت الهرولة التي أفضت إلى ذلك الاحتيال الكبير، وهدفه الأساسي هو المحاولة المستميتة.. لإعادة زرع إسرائيل في الإقليم قسراً.

بين تهديد مُبطَّن للعرب والمسلمين.. بأن إسرائيل هنا لتبقى. وبين حَضُّ للقَتَلة في الكنيست.. على إعلان أنهم أنابوا إلى جادة السلام، والرغبة في التعايش.. حتى يتسنى لهم أن يلِغوا في ثروات الإقليم.. بدلاً من أن يلغوا في دمه. وما بين ذلك وذاك.. من تبشيره بأنهار اللبن والعسل، التي تنتظر الإقليم والعالم بسلام.. هو من قرر أنه بدأ اليوم على يده، كانت بهلوانية ترامب السياسية، التي – من عجب – كان جُلُّ العالم على مسرحها.. مصفقاً مشدوهاً.

تلك هي محاولة «ترامب».. لخلق زخم سلام زائف؛ آملاً أن يُجهض زخماً حقيقياً.. لاستعادة الحق التاريخي..

وهو ما لن يكون زخم زيف.. يُنهي زخم حقيقة، بقدر ما سيكون «السلام.. الذي سيُنهي كل السلام».

فَكِّرُوا تَصِّحُوا..

نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة