Times of Egypt

عبء الرجل الأبيض

M.Adam
نيفين مسعد

د. نيفين مسعد

في حين طوى العالم صفحة الاستعمار منذ ستينيات القرن الماضي، فإن منطقة الشرق الأوسط لا تتوقّف عن إنتاج المزيد من صور الاستعمار، وكأن الثمن الباهظ الذي دفعَته حركات التحرر الوطني حول العالم.. ما زال غير كافٍ، لتأكيد أن الشعوب تملك الحق في تقرير مصيرها، وأن كل استعمار – وإن طال عمره – مآله إلى زوال، فعندما يتابع المرء المؤتمر الصحفي – الذي عقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التاسع والعشرين من الشهر الماضي – فإنه لا يستطيع التخلص بسهولة.. من فكرة أن الرجل الأبيض، ما زال مصمماً على تحمُّل عبء إنقاذ الشعوب الملوَّنة، والأخذ بيدها إلى بر الأمان. 

وذلك، أن خطة ترامب لإقامة سلطة غزة الانتقالية – المعروفة اختصاراً باسم «جيتا GITA» – تنطلق من التسليم بأن الفلسطينيين.. غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم؛ وبسبب هذا العجز فإنهم يحتاجون إلى مجموعة من البيض.. لتأخذ بيدهم إلى مستقبل أفضل، حيث يتحقق الاستثمار لشواطئهم الجميلة.. المطلة على البحر المتوسط، ويجري تثقيفهم على قيم التسامح الديني والحوكمة والشفافية والنزاهة، ويعم الأمن والاستقرار في ربوع الأرض التي يقيمون عليها (وهي أرض يمكن أن تتطور إلى دولة فيما بعد). 

والذي يعود منّا إلى بدايات ظهور مصطلح.. «عبء الرجل الأبيض» – في عام 1899 – سيجد كيف أن الكاتب البريطاني روديارد كيبلينج.. وهو في معرض تجميله وتبريره لاستعمار الشعوب الملوَّنة، لم يكد يترك نقيصة.. إلا وألصقها بتلك الشعوب؛ من العبودية إلى البربرية.. إلى التجهم.. إلى الشيطانية.. إلى نكران الجميل، وصولاً إلى وصفها بالآدمية المنقوصة؛ بنص قوله إنها «شعوب نصف آدمية»، وهو ما يقترب من وصف مسؤول إسرائيلي للفلسطينيين.. بأنهم «حيوانات بشرية». المهم أنه – في مقابل كل الصفات المذمومة – أفاض كيبلينج في وصف الولايات المتحدة وبريطانيا، بأنهما قوتان محررتان.. تدعوان للفخر؛ لأنهما تبحثان عن مصالح الشعوب الملونة.. من إطعام إلى علاج، إلى تحرير من العبودية. (ولم يذكر أن الأمر قد يستدعي إبادة هذه الشعوب.. كما حدث مع الهنود الحمر).

يترأس مجلس الحكم رفيع المستوى – الذي سيدير غزة خلال المرحلة الانتقالية – الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنفسه، ولعلها بذلك تكون أول تجربة من نوعها.. يترأس فيها رئيس دولة مجلساً دولياً، لإدارة إقليم صغير. ناهيك عن أن يكون هذا الرئيس.. هو حاكم أهم دولة في العالم. ومن المعروف أنه كان قد سبق لترامب.. التلويح بهذا الاحتمال، عندما تحدَّث عن الإدارة الأمريكية لغزة، وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط. وها هو الآن يضع اقتراحه موضع التنفيذ.. بعد أن اشتغل عليه طويلاً مع آخرين. فالذي يقرأ تفاصيل البنية الهيراركية المقترحة، والوظائف الموكولة للإدارات والهيئات المختلفة، يتأكد أن تصوّر اليوم التالي في غزة.. لم يكن أبداً وليد اللحظة. 

وهنا يمكن مقارنة التجربة الأمريكية المقترحة لحكم غزة، بالتجربة الأمريكية السابقة في حكم العراق.. بعد احتلاله في عام 2003؛ حيث سنجد اختلافاً جوهرياً بين التجربتين. وذلك أنه في وجود بول بريمر الحاكم المدني للعراق، كانت واجهة الحكم.. هي مجلس الحكم الانتقالي الذي – رغم كل الملاحظات عليه – تشكّل من 25 مواطناً عراقياً من الشيعة والسنة والأكراد. أما مجلس الحكم رفيع المستوى.. الذي يتولّى إدارة المرحلة الانتقالية في غزة، فأعضاؤه – كما هو متداول – يتراوح عددهم ما بين 7 و10 أفراد. وهؤلاء هم الرئيس الأمريكي ذات نفسه، وعضو بريطاني، وعضوية هولندية ومصري وفلسطيني.. واحد على الأقل، بما يعني أن الأغلبية هي لغير أصحاب الأرض، وأن الرجل الأبيض يتوسّع في تعريف مفهوم «العبء».

على صعيد آخر، فإن الذي يدقّق في الاقتراح الأمريكي – ببنوده العشرين – سوف يجد انضباطاً في تحديد ما تريده إسرائيل، وغموضاً يكتنف ما يريده الفلسطينيون. ففي هذا الاقتراح تتكرر جمل غير محددة، ومفتوحة المدى الزمني؛ من نوع «وستبقى خطوط القتال ثابتة.. إلى أن يتم استيفاء الشروط للانسحاب الكامل على مراحل-البند الثالث»، فمتى تُستوفى هذه الشروط ومَن الذي يحكم باستيفائها؟، و«ستُحكم غزة بموجب سلطة انتقالية تابعة للجنة فلسطينية-البند التاسع».. فإلى متى تستمر هذه السلطة الانتقالية؟ 

ويشار إلى أن الجيش الإسرائيلي.. سينسحب «باستثناء وجود في محيط أمني.. إلى أن يتم تأمين غزة كما ينبغي، من مخاطر أي تهديد إرهابي متجدد-البند السادس عشر» فما هو تعريف مصطلح كما ينبغي؟ 

أما البند التاسع عشر.. فهو العجب العجاب، لأنه يشير إلى أنه – مع تقدُّم الإعمار بعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية – قد تتهيأ الظروف أخيراً لفتح مسار ذي مصداقية.. نحو تقرير المصير، وإقامة دولة فلسطينية»، وكلمة «قد» هذه تنطوي على التشكيك وتفيد احتمال التوصّل لإقامة الدولة الفلسطينية. كما تفيد احتمال عدم التوصُّل لها.. على الرغم من تنفيذ كل المطلوب.

والخلاصة، أنه بخلاف القول إن إسرائيل ستفرج عن 250 سجيناً محكوماً عليهم بالمؤبد.. «بمجرد إطلاق سراح جميع الرهائن»، والقول بأنه سيتم «فوراً إدخال مساعدات كاملة».. بما يفيد المدى الزمني القصير جداً، فإن الأفق مفتوح.. والتنفيذ معلّق.. على شروط مطاطة، دون وجود ضمانات. وهي أساسية؛ إذ تكفي المقارنة بين نص البند التاسع عشر.. الذي يعطي أملاً بعيداً في إقامة الدولة الفلسطينية، وتأكيدات نتنياهو المتكررة.. بأنه لن يقبل أبداً بقيام دولة فلسطينية.

نحتاج أن نرى حضوراً فلسطينياً.. في الترتيب لمستقبلهم، وفي الحديث عن اليوم التالي. وهذا يتطلب دراسة ملاحظاتهم.. على اقتراح ترامب، ومناقشتها مع الوسطاء. 

إن مشهد المؤتمر الصحفي الأمريكي-الإسرائيلي قبل أيام، يذكرنا بترتيبات أستانة.. لمستقبل سوريا، عندما كانت تجلس روسيا وتركيا وإيران.. في غياب التمثيل السوري، وقد رأينا إلى ماذا انتهى الحال في سوريا.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة