سمير مرقص
في ضوء متابعتنا الشأن الداخلي الأمريكي – منذ منتصف التسعينيات – التي كان من ثمارها كتابنا «الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة»، أتيح لنا فهم الديناميات الأمريكية.. ليس فيما يتعلق بخارجها فقط، بل بالداخل الأمريكي. فمن خلال تتبعنا الداخلي الأمريكي على مدى عقود تبادل فيها الحزبان الكبيران: الديمقراطي والجمهوري الحكم، كان الداخل الأمريكي يفور طبقياً وجيلياً وإثنياً وسياسياً وفكرياً. تلك الفورة التي بلغت حدأ أقصى غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، منذ عقد الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، وذلك في الزمن الترامبي الأول.
وفي السنة الأولى من الفترة الرئاسية الأولي الترامبية، حاولنا تتبع تلك الفورة وطبيعتها وأسبابها.. من خلال رصد الطبيعة المتفاقمة للصراعات المجتمعية المختلفة؛ إثنية وطبقية وسياسية، والسجالات الدائرة بين الأمريكيين. وما بات يترتب على ذلك.. من استقطابات بين الفئات المجتمعية النوعية، والطبقات الاجتماعية، والأجيال، والتيارات السياسية. ومن ثم تأثير ذلك على تماسك المجتمع. في هذا المقام، كتبنا المقالات التالية في سنة 2017: أمريكا وجدل الاستقلال والانقسام، جماعات الكراهية البيضاء تهدد أمريكا، وأمريكا تواجه التصدع والصراع معاً، الانتخابات الأمريكية: الانقسام المجتمعي إلى الكونجرس، ترامب وتوسيع نطاق صراع الحضارات، اليمين الديني الأمريكي ينتعش مجدداً. ولعل الواقعة التي كشفت عن مدى حدة الفورة الأمريكية الداخلية.. تجلت في ردود الفعل الغاضبة لواقعة الاغتيال المأساوي للمواطن الأسود جورج فلويد في مايو 2020 (راجع ورقتنا 10 دقائق هزت أمريكا). وخلصنا آنذاك ــ ويدعم ما خلصنا إليه مصادر عديدة معتبرة ــ إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني أمرين: الأول: التصدع القومي، والثاني: الصراع الطبقي.
أولًا: «التصدع القومي» ؛سيكون من شأنه إحداث انهيارات في البنية المجتمعية. إذ إن استمرار العنف بين «جماعات الكراهية البيضاء».. والملوَّنين، وامتداد جغرافية العنف إلى أماكن غير مسبوقة ومتعارف عليها تاريخياً، سيؤدي إلى أمرين هما؛ الأول: حدوث استقطابات حادة بين مكونات المجتمع. والثاني: فك لحمة التماسك المجتمعي.
ثانيا: «الصراع الطبقي»؛ فلقد كشفت الأحداث الإثنية.. أن البعد الطبقي حاضر في تلك الأحداث بقوة؛ الأمر الذي يفاقم من حدة الصراع ويزيد من الاستقطاب.
ويبدو أن الحالة «التصدعية-الصراعية» – التي كانت تعكس حالة الانقسام الأمريكي البازغ قبل ثماني سنوات – قد تطورت إلى وضعية «تمزق». وهذا ما ترصده أكثر من دراسة حديثة. ولعل التحليل – الذي قامت بإعداده، قبل أسبوع (26 سبتمبر 2025) وكان موضوع الغلاف دورية The Week البريطانية الأسبوعية – بعنوان أ«مة ممزقة: هل يمكن للديمقراطية البقاء في ظل العنف السياسي؟ A Nation Torn: Can democracy survive political violence? » يعكس مدى الجدل الدائر حول ما آل إليه الداخل الأمريكي.
فالحالة الانقسامية التي سادت الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر من مستوى، كانت كاشفة ــ بامتياز ــ عن طبيعة ومدى التباينات الأمريكية الطبقية والجيلية والإثنية والسياسية. بيد أن الأمر لم يقف عند حد الحالة الانقسامية بتبايناتها، إذ تجاوزها إلى وضعية «التمزق» التي تعكس خللاً جسيماً قد حل بالماكينة التي تعمل على دمج الأمريكيين، وأن تقطعاً قد طال كثيراً من الروابط المشتركة والموحدة بينهم. والأهم والأخطر هو أن هذا الخلل لم يعد من الممكن حله بالحوار. من هنا كان التساؤل المطروح والمشروع من قبل دورية «ذا ويك».. حول مدى قدرة الديمقراطية الأمريكية على البقاء صامدة، في مواجهة العنف المجتمعي بأشكاله المختلفة.
وتعدد أكثر من دراسة حديثة.. الأسباب التي أدت إلى وضعية «التمزق» الأمريكية الراهنة في الآتي: أولًا: الخطاب السياسي الهوياتي المتعصب. ثانياً: بالرغم من أن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية هو الاقتصاد الأكبر عالمياً، إلا أنه لم يستطع تأمين العدالة والمساواة لكل مواطنيه. ثالثاً: تورط الآلة الإعلامية الورقية والمرئية والتواصلية الرقمية.. في تأجيج الانقسام والتمزق بين المواطنين من خلال خطاب سجالي. رابعًا: الارتداد عن الفكرة التي طالما مثلت واحدة من ملامح الحلم الأمريكي لدى الكثيرين، ألا وهي «أمريكا البوتقة» القادرة على صهر مختلف الإثنيات. خامسًا: الممارسات السياسية والاقتصادية.. الهادفة إلى تكريس الانقسام، بدلاً من الاستجابة للاحتياجات المادية والمعنوية للمواطنين على اختلافهم. سادساً: تعدد السرديات التاريخية.. التي تصب في تشكيل ذاكرات متصارعة، تنعكس على أرض الواقع صداماً، وكراهية، وإقصاءً، ونفياً. بلغة أخرى، شاعت – حسب أحد الباحثين – «وضعية تشظٍ بين كل قطاعات وولايات المجتمع الأمريكي».
يثير الاضطراب الأمريكي المتعدد الأبعاد والمستويات جدلاً كبيراً.. حول مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل تحولات كونية تاريخية كبرى. فالسؤال الأساس – الذي طرحته الدورية البريطانية – يفتح الباب أمام طرح العديد من التساؤلات؛ تتعلق بقدرة النظام السياسي الأمريكي.. الذي تعرَّض – في الزمن الترامبي – إلى كثير من الهزات. من هذه الأسئلة هل سيأخذ هذا التمزق مداه الأقصى أم أنه عابر ويمكن تجاوزه؟
هناك ردان على السؤال: الأول يرى – كما ورد في الجارديان – أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تعرَّضت على مدى تاريخها.. لأزمات استطاعت أن تتجاوزها بدرجة أو أخرى مثل: الحرب الأهلية، والأزمة الاقتصادية الكبرى في عشرينيات القرن العشرين، والعنصرية وما واكبها من اغتيالات وأحداث عنف مؤسفة. أما الرد الثاني فيميل إلى أن الأزمة هذه المرة.. تشير إلى أن الانقسام/التمزق يتغلغل في جسم المجتمع، ولا يقف عند حدود المواقف السياسية.
سؤال آخر يثيره البعض في خضم الجدل الدائر اليوم.. هل يمكن للولايات المتحدة الأمريكية: الوطن؛ أن تستجمع عناصر قوتها ،لتعمل على صياغة عقد اجتماعي جديد.. يعبر بها من محنة الانقسام/التمزق؟ أم أن الحالة الانقسامية ووضعية التمزق.. ستتفاقمان أكثر فأكثر؟
وبعد، إن الولايات المتحدة الأمريكية أمام تحد تاريخي؛ فالعنف السياسي المتولد من الانقسام/التمزق «ليس عشوائياً» ــ كما قالت بربارا والترز يوماً ــ إذ يزدهر.. كما ورد في خاتمة تحليل «ذا ويك»، بفعل قادة سياسيين يشجعونه، كما يترسخ عندما تكون الديمقراطية متراجعة، كذلك حين يتوافر للمواطنين.. إمكان الوصول اليسير إلى السلاح. ونضيف إلى ذلك ما أسهمت السياسات الاقتصادية، وانحيازات القلة الثروية.. على تأجيج الانقسام الطبقي والإثني والسياسي.. في ظل كتلة شبابية جارفة.
إنه مفترق طرق، لا يخص أمريكا وحدها.. لأن ما سيحدث سيؤثر – بالضرورة – على مستقبل العالم.
نقلاً عن «الأهرام»