Times of Egypt

من عظمة أم الدنيا

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

المرة تلو المرة، أتلقى من السادة الذين يتابعون ما يُكتب ويُنشر في هذه المساحة.. ما يفيد باهتمام مضاعف بالشأن الاجتماعي الريفي والفلكلوري، وتتراوح التعليقات؛ بين أن ما كتب ينعش ذاكرتهم ويحيي حنينهم لفترات الطفولة والصبا والقرية؛ بحقولها وسككها وترعها وأجرانها، وكيمانها وطعامها وألعابها، والأقران.. من بنات وبنين، وأشجارها ومحاصيلها وأغانيها ومواويلها، واحتفالاتها ومواسم أعيادها، وصفاء هوائها وسكون ليلها ولمعان نجوم سمائها، وغوص الأقدام في وحل طينها.

وبيِّن أن ما كُتب.. فيه تماس مع علوم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والأنثروبولوجي والتاريخ والجغرافيا والأدب الشعبي، ويصلح مادة خاماً تتيح للباحثين في تلك المجالات.. إمكان تحويلها لمادة علمية تحليلية رصينة.. وأياً ما كان التقييم، فإن الكاتب الذي ينتسب لأصول غير قاهرية أو إسكندرانية أو لأي من المدن الكبرى، وينتمي لتكوين فكري وعلمي تغلب عليه السمة الاجتماعية والتاريخية، وسارت حياته في مراحل متداخلة.. كان للانتماء الشعبي النصيب الأكبر فيها؛ مثل النشأة في القرية والحارة والزقاق والدرب، ومثل الانغماس في الموالد والأفراح والأحزان.. ذات العمق العامي وهلم جرا؛ هذا الكاتب.. يحن إلى تلك الأمور، ويصيب الكلل عقله ووجدانه.. لدرجة «الفرهدة»، من استمرار متابعة الشؤون السياسية وتوابعها، بل إن «الفرهدة» تزداد وتتفاقم.. مع متابعة أحداث كأحداث الأرض المحتلة في غزة والضفة، وحتى أحداث الأرض غير المحتلة.. في اليمن وسوريا وليبيا ولبنان والسودان وايران.

ولذلك قد يجد المرء ملاذاً في الانعطاف بعيداً – ولو نسبياً – عن منقع الدم والدمار والأشلاء؛ ليس هروباً من الواقع المزري المؤلم، وليس حنيناً مرضياً لأيام خوال.. لم تكن خالية من الهموم، وكان لها بؤسها. وإنما هو محاولة لإنعاش وجدان الأمة.. بمفردات وعناصر تكوينية، صنع منها ضفيرة محكمة التداخل، جميلة الفتل، موحية دوماً بالعافية وروقان البال.

انعطافي اليوم، مع مجموعة من المصادر والمراجع.. المعنية بالجانب الثقافي للحضارة المصرية؛ بالمفهوم الواسع للثقافة، الذي في مقدمته طرائف الحياة، وما صاحبها من أدب شعبي أو فلكلور، ورصد الاتصال بين مراحل تاريخ.. مصر منذ عصر الأسرات إلى العصر الحديث، وهو اتصال عكسته مكنونات الوجدان الشعبي؛ أي العادات والتقاليد، وبعض جوانب العقائد الدينية والأمثال الشعبية، ومفردات لغوية.. صمدت واستمرت حتى وقتنا هذا. 

وفي مقدمة المراجع التي عنيت بهذا الاتصال التاريخي، يأتي كتاب «وحدة تاريخ مصر» تأليف الأستاذ محمد العزب موسى.. ثم كتب كثيرة أخرى؛ بعضها مصادر كخطط المقريزي، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وتاريخ هيرودوت. وبعضها مراجع ألّفها كبار.. مثل سليمان حزين وأحمد رشدي صالح وأحمد مختار عمر ومحمد عبدالله عنان وحسين فوزي ومحرم كمال ووليم نظيم وحكيم أمين وأحمد فخري، رحم الله الجميع، أمواتاً وأحياءً.

وللأمانة، فإن كتاب «وحدة تاريخ مصر» – للأستاذ محمد العزب موسى – فيه ثراء كبير؛ لأنه اعتمد على معظم تلك المصادر والمراجع. والقليل من الوفاء له والاعتراف لفضله رحمة الله عليه، فقد ولد عام 1935 وتوفي عام 1993، أي لم يبلغ الستين، وهو صحفي مصري ألّف نحو 17 كتاباً.. اتصل معظمها بتاريخ مصر، وقد صدر كتابه – الذي أتحدث عنه وأقتبس منه – عام 1972، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر. 

ويأخذ محمد العزب.. من محرم كمال – صاحب كتاب «آثار حضارة الفراعنة في حياتنا الحالية» – تصويراً شاعرياً.. عن التشابه القوي للمظاهر في ريف مصر قديماً وحديثاً: «نحن إذا سرنا على جسور القرى، نرى صفوفاً من الرجال والماشية.. وهي تسير في الأفق البعيد، فتعيد إلى ذاكرتنا مناظر الصفوف الطويلة المشابهة.. المرسومة على جدران المعابد والآثار، ومما يزيد هذه الصورة حركة وقوة حياة.. ما نراه يرفرف فوق رؤوسنا من طيور، فهنا نجد الإلهة المصرية القديمة «نخبت» ترفرف على شكل عقاب، وهناك يطير الإله «حورس» على شكل صقر كبير، وعلى مدى البصر يسير الإله «أنوبيس» على شكل ابن آوى.. فيختبئ في الوديان والسهول، وعند مواطئ أقدامنا نرى «خِبر» يسير متمهلاً في شكل جُعل صغير، وهناك تحت الشجرة الباسقة.. نرى الإله «خنوم» يرقد تحت ظلها في هيئة كبش كبير، وهكذا – في كل جانب من جنبات الوادي وسهوله – نرى الحروف والعلامات الهيروغليفية.. تقفز بيننا، تذهب وتجيء، وكأنها نقوش معبد مصري قديم.. قد عادت إليها الحياة فجأة، بقوة ساحر عظيم».

وربما تكون لي وقفة مع عادات وتقاليد بقيت مستمرة في مقال مقبل.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة