عادل نعمان
ولما يُصِرُّ أنصار الدولة الدينية.. على تطبيق الشريعة؛ ممثلة في الحدود لا غير. فاعلم أنهم لا يفهمون في شؤون الحكم شيئاً.
فليس يهمهم من ستة آلاف آية في القرآن، سوى تطبيق الحدود فقط؛ ظناً منهم أن السماء ستمطر ذهباً وفضة.. إذا قطعنا أيدي كل سارق. وأن الله سيفتح أبواب الخير على العباد.. إذا جلدنا كل الزناة. وأن الملائكة ستتنزل على الأرض، تزرع وتحصد وتعلم، وتطبب المرضى.. إذا جلدنا كل مَن رمى المحصنات دون شهود. وأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وصلب قاطعي الطريق على المشانق.. يرهب بطون النساء؛ فلا تلد إلا الصالحين التُّقاة.
وإذا جادلتهم بالحسنى.. في أن المعاملات التجارية والمدنية في القرآن، لا تحمل إلا القواعد العامة.. دون تفاصيل تُذكر، وأن بناء اقتصاد الأمم.. يحتاج إلى علم ودراسات وأبحاث، وتفاصيل بمِلْء مجلدات.. ظنوا أنك تكذب على الله!
والآيتان هما: (وأحل الله البيع وحرَّم الربا).. ولم يوضح لنا الله ما هو البيع، وما هو الربا (وكان المقصود ربا الجاهلية، وهو الربا المضاعف، والذي يصل بصاحبه إلى الاسترقاق).. ليس غيره.
وكذلك الآية: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه).. ليس غير هاتين الآيتين. فضلاً عن أن المعاملات التجارية والمدنية.. مرهونة بزمان ومكان معين، ومتطورة ومستحدثة بطبيعتها. ومن ثم، فقد ترك الله للناس تفاصيلها، وما يستجد من وقائع وأحداث.
وأكاد أجزم.. أن تيار الإسلام السياسي – في تبنيه فكرة تطبيق الشريعة، قاصداً البدء بتطبيق الحدود – يعلم تماماً أنه مخطئ.. في ترتيب أولوياته؛ فهو يعلم أن مهمته تحقيق العدالة والمساواة، وترسيخ قواعد الدين الحق، وتثبيت قواعد الأخلاق والقيم والمثل، ورفع الظلم عن الناس، وتحقيق قدر معقول من الرفاهية، والحياة الكريمة للناس. ومن ثم تهيئة المجتمع.. إلى طريق العدل والرخاء. إلا أنهم يبدأون بتطبيق الحدود، حتى تخضع لهم رقاب الأمة، وتُرسِي قواعد الخوف والرعب لدى الناس؛ فلا ينقلب عليهم أحد، أو يثور ضدهم ثائر؛ ومن ثم تستقر لهم الأمور وتلين لهم الشعوب، وأظن أن ما عجَّل بثورة الشعب ضد حكم الإخوان.. هو سيطرة هذا الخوف على الناس. وقد كان خطأً قاتلاً.. عجَّل بنهايتهم.
ولو حاولت مناقشتهم عن الحدود – التي أُبطل العمل بها.. في معظم الدول الإسلامية، والقليل منها يأخذ ببعضها – تأخذهم العزة بالإثم، وكأن الحد.. هدف في حد ذاته. والحدود أربعة لا غير: (حد قطع يد السارق، وحد الحرابة، وجلد الزاني والزانية، وحد رمي المحصنات). ولما نقول إن العمل بالحدود على إجماله.. قد أُبطل، وتوقف العمل بها، تعجبوا وبهتوا!!
وهو قرار قد بدأه النبي.. تخفيفاً عن الناس؛ حين قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات). فقد أُسقط الحد كثيراً في عهد النبي والصحابة.. إذا تاب المسيء وأناب، وعاد إلى جادة الصواب؛ ومنهن امرأة قد «استسهلت» الاعتراف بالزنا، فسقط الحد عنها، وقطاع طرق.. تابوا قبل وصول أمر الجريمة إلى الخليفة؛ فليس الباب مفتوحاً على مصراعيه للقتل والقطع والجلد.
وتأخذهم العزة بالإثم أيضاً، إذا قلت لهم أن تعطيل الحدود.. بدأ منذ الأوائل.. لصعوبة تنفيذه، وما رأى الفقهاء وضع شروط شرعية معقدة وصعبة.. لاعتبار الجريمة تستحق العقوبة المقررة، حتى يُجاز تطبيق الحد، إلا دليلاً على البحث عن وسيلة شرعية لعدم تطبيقه، والتهرب من تنفيذه.
ويقولون في هذا: «إنكار وجحود لما جاء في كتاب الله. كيف؟ تعالَ معي: هناك شروط شرعية لإثبات واقعة الزنا، تجعل من المستحيل تطبيقه؛ أولها أربعة شهود.. رجال مسلمين بالغين عُدول. (يجوز الطعن في أخلاق أحدهم حتى تسقط شهادته). وأن تكون شهادتهم عن الواقعة.. واحدة وثابتة ومُرَتَّبة. (تتم شهادة كل واحد منهم على حِدة، فإذا اختلفت واحدة عن مسارهم، سقطت الشهادة، وبرئ صاحبنا وصاحبته). أن يشاهد الأربعة عملية الإيلاج «المِرود في المكحلة» بوضوح شديد دون.. مواربة أو شك. (فلو كانوا تحت غطاء، سقطت الشهادة)؛ فبالله عليك، مَن يستطيع أن يضمن أن تكون الشهادة على هذا النحو وبهذه الدقة؟
وماذا لو علم الشهود.. أن الخطأ الواحد في الشهادة، يعرضهم إلى الجلد.. «عقوبة رمي المحصنات»، ويكون قد دخلها شاهداً.. خرج منها مداناً مجلوداً؟
وهكذا في حد السرقة، فإن شروطاً كثيرة تعجيزية.. قد وضعها الفقهاء لإثبات واقعة السرقة من الناحية الشرعية؛ معها.. يصبح أمر تنفيذ الحد مستحيلاً تماماً. وقد وضع الفقهاء الحل في العقوبة التعزيرية: (وهي عقوبات يحددها القاضي، أو ولي الأمر.. على مخالفة لا يوجد لها حد شرعي مقدر، أو لا تتوفر شروط الحد، وتشمل أنواعاً متعددة.. كالوعظ، والتوبيخ، والضرب والسجن، والمنع من السفر، وحتى الإعدام).
ولما كان الأمر كذلك، فضلاً عن أن الحدود الأربعة.. لا تستوعب كل جرائم العصر – والمستحدثة اليوم وغداً – التي تسير وتتكاثر مع زيادة السكان والأحداث، بل وتأخذ مَناحِي شتى ومعقدة، وفي نفس الوقت يلتزم المشرع بمجاراة هذه الجرائم المستحدثة.. يوماً وراء الآخر، فإن هذه الدعوة إلى تطبيق الحدود.. تصبح دعوى لا صلة لها بالواقع، وأن تعطيلها.. واقع حياتي وتاريخي.
(الدولة المدنية هي الحل).
نقلاً عن «المصري اليوم»