Times of Egypt

المُتَبلِّدُون في الأرض..!

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي

رغم كل الوحشية.. ورغم كل التآمر.. ورغم كل الخنوع والتضييع.. ستنتهي المقتلة في غزة، وسينتصر الحق.. الذي في سبيله أبيدت، وأبيد أطفالها ونساؤها وشيوخها، وكل أعزل فيها.. قتلاً وتشريداً.

ستكون فلسطين دولة لأهلها.. لا دولتين، رغم أنف كل ترهات موازين القوى والهيمنة الأمريكية والوحشية الإسرائيلية.

لن نتوقف كثيراً عند تحليل سُنن التاريخ والكون.. كما اقتضتها حكمة الخالق وعدله، ولا عند حال أهل غزة، وصمودهم الأسطوري؛ فأهل فلسطين في ثواني التاريخ – التي نحياها – قد صاروا علماً على الإنسانية.

الأولى بالتوقف والتبين، هو حال كل ما دون غزة – في طول الأرض وعرضها – حكومات وشعوباً.. من بقي منهم قابضاً على جمر إنسانيته، ومن لم يكن لإنسانيته أهلاً.

في يوم الاثنين 22 من سبتمبر الجاري، أُعلن إضراب عام لمدة 24 ساعة في إيطاليا.. من قِبَلِ النقابات الأساسية.. احتجاجاً على المجازر الوحشية وحرب الإبادة الإسرائيلية، ضد المدنيين العزل في غزة وعموم فلسطين.

شمل الإضراب المواصلات العامة، السكك الحديدية، الموانئ والمدارس، الأوساط التعليمية والبحثية، جلَّ المرافق العامة، وبعض – ليس بالقليل – من القطاعات الخاصة.

اشتعلت شرارة التظاهرات المصاحبة للإضراب، لتنتشر في أكثر من 75 مدينة إيطالية.. من الشمال إلى الجنوب؛ غير مستثنية الحواضر الكبرى.. مثل روما وميلانو، وحتى المدن الأصغر.. المفترض فيها انشغالها في شأنها المحلي، وانقطاعها عما يجري خارج حدود محلياتها.

في الموانئ الكبرى-  مثل جينوا وليفورنو – انسحب العمال، وأضرموا الاعتصامات.. بغرض شل أنشطة الموانئ، ومنع شحنات.. يُشتبه أنها تحمل أسلحة لإسرائيل.

جاءت مطالب ذلك الطوفان البشري الهادر – وبما له من مصداقية تعبير عن الشارع الإيطالي، بتنوع جغرافيته وفئاته وطوائفه – وكأنها أوامر الشعب لحكومة «جورجيا ميلوني» اليمينية.. الكارهة لكل ما هو عربي ومسلم، والمتواطئة مع إسرائيل.. بزعم حماية مصالح إيطاليا.

تعرف «ميلوني».. أن تقاعسها عن دعم إسرائيل له كلفته السياسية؛ من فقدان مصالح، وموقع متميز داخل الناتو والمعسكر الغربي، كما تعرف – في المقابل – أن جهرها باحتقار الحقوق التاريخية للعرب، بل وجهرها بعدم الاكتراث.. بما يجري من إبادة جماعية لبشر أعزل – فقط لكونهم عرباً مسلمين – ليس له أي كلفة مادية أو سياسية؛ فالعرب في عرفها.. شعوب وساسة هُمَّل.. على هامش التاريخ، خانعون، خائفون، والأهم متبلدون.

هذا ما يجري في عموم قارات العالم، وشعوبها التي ليست من جلدتنا.. عرباً أو فلسطيناً؛ انتفاض من أجل المستضعفين، وغضبة في سبيل نصرتهم، وجهد صادق.. لا يكل؛ ليس فقط لإظهار التضامن المعنوي والرمزي، ولكن إقدام على كسر الحصار، ومجابهة الهمجية الإسرائيلية. 

ولنا في أسطول الحرية.. الأول، والثاني، وما يتبع.. خير دليل.

هذا ما يضطرم في يابس الأرض وبحارها.. من أجل فلسطين، إلا في محيطها العربي.. الأولى بها؛ فليس فيه إلا صمت القبور، أو فحيح التنابز السياسي، والاستهلاك السياسي للقضية، وبعض من شعبوية بلهاء، وتبلد فطرة.. قبل تبلد حس!!

هل العرب خائفون.. هل العرب مقهورون.. هل العرب مغلوبون بالفقر المُنسي.. أم متجبرون بالغنى المُطغِي.. هل العرب ذاهلون تائهون عدميون..؟!

إن كان الأمر كذلك، أو على غير ذلك.. يبقى السؤال:

لماذا العرب متبلدون..؟!

ليس السؤال حضاً على التظاهر والاحتجاج، ولا استحساناً لفوران شارع عربي منهك.. تحت وطأة التمزق الاجتماعي، والتصحر السياسي، والجهل الاقتصادي، والقهر بذلك كله، ولكنه سؤال استفهام، كما استدراك واجب.

لا يخفى على أحد أن الجمود.. باسم الاستقرار، هو القيمة الأعلى في تراتبية عقيدة السلطة في العالم العربي، درءاً لمغبة تغيير.. طالما أتى بالأسوأ، أو هكذا يراد أن يكون.

ليس في الاستقرار عيب، إن كان هو قرين تسيد القانون، وإقرار العدل، ونتيجة موضوعية.. لحضور معنى المواطنة، والنسيج المجتمعي الواحد، وشعور لا يفارق المواطن.. بملكيته لوطنه.. حلماً وموارداً، وقدَراً وقيمة.

ولكن، إن كان الاستقرار.. هو قرين قهر الرقاب، وسحق النخوة.. في شعوب، بات هدفها الأول وملكتها الأولى.. هي التكيف مع تدني أسقف القهر والانسحاق، والانحناء تحتها أكثر؛ فنتاجه جماعات بشرية ديوثة، معوجة الفطرة، فاقدة لكل معاني الإنسانية.. تحيا كالسائمة أو دون السائمة.

هل فقد العرب الشغف بالمعنى، أم فقدوا الوعي بجدواه.. حتى أنهم صاروا دون البشر؛ فلا هم يقدمون على الانتحار بفقدانه، ولا هم يبحثون عنه؟

وليس في ذلك.. أي إسقاط سياسى على الواقع العربي، ولكن حالة دهشة مستحقة.. لمجافاة جماعة إنسانية – تقارب النصف مليار نسمة – لأساسيات السلوك الفطري الإنساني؛ وهو البحث عن «معنى»، والتعلق به، وتلمس الطرق لتحققه.. متجاوزين – في ذلك – ما يحيط بهم، أو يحاك لهم.. من أهوال في الحياة.

التبلد ليس فعل مقاومة، بل هو أقرب للانتحار.. بقتل الإنسانية والفطرة، لا بقتل النفس. 

وإن إرادة البعض.. عنوان مقاومة الواقع الآثم. وإن احتفى به البعض.. عنواناً على الاستقرار، فليعلموا أنه بتر للروح.

الأرواح المبتورة، والمتنازلة عن إنسانيتها، لا يُلتمس في كنفها أمن ولا منعة، ولا استقرار ولا تنمية؛ بل هي ذخر لكل آثم، يريد أن يستبيح أوطانها، ويديل دولتها.

(فكروا تصحوا..)

نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة