زاهي حواس
كانت ضخامة هرم الملك خوفو، واعتدال بنائه، ورسوخه الأبدي.. فوق هضبة الجيزة، هو أول ما أثار خيال الرحالة من اليونان، ومن بعدهم الرومان ثم العرب. وذلك، حتى دون معرفة تفاصيل الإعجاز الهندسي المتقن؛ سواء في تصميمه الداخلي، أو اتجاهات زواياه. وهو ما بدأ يتكشف لنا – بعد سلسلة طويلة من الدراسات العلمية، التي أجريت على الهرم منذ مطلع القرن العشرين – وإلى الآن لايزال الكثير من أسرار هذا البناء المعجزة غير معلوم، وربما يحتاج الأمر إلى قرون قادمة من البحث.. للكشف عن كل أسرار هرم الملك خوفو.
لقد استطاع المهندس المصري القديم – بالاستعانة بكبار علماء الفلك.. في زمن الملك خوفو – ضبط مدخل الهرم في الواجهة الشمالية، وفي اتجاه النجم الشمالي.. دون انحراف يُذكر! وقد حاولنا – في المقال السابق – شرح الطريقة التي استخدمت لتحديد الاتجاهات الأربعة للهرم.
واليوم نعرض لكم تقنية أخرى.. استخدمت لتحديد الشمال الحقيقي، وذلك اعتماداً على الشمس.. أكثر من النجوم. حيث يتم استخدام قضيب طويل.. موضوع على الأرض، ويقف رأسياً بأسلوب بارع – من خلال أداة قياس – ليتم تحديد مدى الظل.. من خلال هذا القضيب بنحو ثلاث ساعات قبل الظهر؛ كما يتم رسم دائرة باستخدام.. طول الظل، حيث يكون القضيب مركز هذه الدائرة. وبعد مرور ثلاث ساعات أخرى بعد الظهر، يقاس ظل الشمس مرة أخرى، ورسم دائرة.. بطول الظل الذي صنعه القضيب، تتقاطع مع الدائرة الأولى. ومن خلال تقاطع خطي الظل.. فإنه يمكن الحصول على اتجاه الشمال الحقيقي، ويتم تكرار العملية خلال عدة أيام، للتأكد من صحة القياسات والمواقيت. وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك النظرية ربما تكون أقل دقة.. من الطريقة النجمية التي شرحناها من قبل. كما أنها لا تحدد الاختلافات الدقيقة التي ظهرت في الدولة القديمة.
ومع بداية وضع قواعد الهرم، يقام احتفال عُرف باسم «شد الوتر» ويعم هذا الاحتفال في أرجاء البلاد.. متضمناً فقرات من الموسيقى والرقص، وتوزيع كميات كبيرة من الطعام.. الذي يضم اللحوم، والفطائر المحلاة بالعسل، والفواكه. وكان الملك يحضر هذا الاحتفال – بل ويكون فاعلاً فيه – عن طريق تصويره وهو يقوم مع «الإلهة سشات» – إلهة الكتابة والقياس في مصر القديمة – ومن ألقابها «سيدة البناء».. بدق أوتاد زوايا المبنى، وشد الحبال حوله.
وهناك طقس يتم القيام به في ذلك الاحتفال، وهو التضحية بحيوان، حيث كان يتم نحره، وتقطيعه إلى قطع، وتوزيعها على الأربعة أركان الخاصة بالهرم.. ثم تغطى بالرمال النقية. كما يتم تقديم القرابين؛ مثل الأواني والطاولات الصغيرة، المسجل عليها اسم صاحب الهرم. ومن المحتمل أن تلك الطقوس تعود إلى فترات مبكرة جدا من التاريخ المصري القديم.
ومن خلال عدد من البرديات – التي نجت من عوامل الزمن – عرفنا أن المصريين القدماء كانت لديهم معرفة علمية عالية المستوى.. في مجال الرياضيات، تمكنهم من استخدام الحساب والهندسة، للوصول إلى قياسات مظبوطة؛ فقد عرفوا فكرة الرقم واحد، وتمكنوا من حساب مساحة المثلث والمربع والدائرة؛ لذلك لم تقتصر معارفهم فقط على مبادئ الرياضيات الأساسية والهندسة، بل توسعت إلى حساب المثلثات والرياضة المركبة.
والشاهد على ذلك، هو تخطيط وبناء الهرم الأكبر بدرجة فائقة من الدقة. وبمجرد تحديد المحور الشمالي-الجنوبي تم تحديد قاعدة الهرم. وكانت الأدلة – التي عثرنا عليها حول الهرم الأكبر نفسه، وحول الهرم الجنوبي من أهرامات الملكات.. التي تقع في الناحية الشرقية من هرم خوفو – مؤكدة، وتعطينا فكرة واضحة حول التقنيات الهندسية.. المستخدمة في بناء الهرم. ومن ذلك نستطيع القول، إنه – في بادئ الأمر – كان يتم عمل خط شمالي جنوبي.. بطول ضلع قاعدة الهرم، غالباً في الجانب الغربي، ومن أحد الأركان.. يتم عمل مربع بزاوية 90 درجة.
وهناك طرق عدة استخدمها المهندسون – في تحديد تلك الزاوية القائمة بشكل دقيق – إما باستخدام نموذج المربع.. الذي عثرنا على أمثلة منه، أو باستخدام مثلث فيثاغورس، أو باستخدام أقواس متقاطعة. وتشير حفرات الأعمدة التي عثر عليها – بطول الجانبين الشرقي والغربي للهرم الأكبر – إلى أنه خط التحديد.. وقد امتد خارج مساحة القاعدة نفسها، وهو ما يمنح مقاييس دقيقة بطول كل جانب. ويبدو أن مهندس الهرم قد تعلم جيداً من المهندس نفر ماعت؛ الذي بنى في دهشور.. هرمين للملك سنفرو؛ أحدهما يعرف باسم الهرم المنحني – أو المنكسر – إشارة إلى انكسار زاوية البناء.. قرب الثلث الأخير من الهرم. والآخر يعرف باسم الهرم الشمالي، أو الهرم الأحمر.
وكما ذكرت من قبل، فإن هذا المهندس العبقري نفر ماعت.. لم يأخذ حقه من الشهرة. رغم أنه في رأيي يعتبر أهم المهندسين المعماريين في العالم القديم. وهو أول من بنى هرماً حقيقياً.. بعد أن كانت الأهرامات تبنى مدرجة مصطبة فوق أخرى. ومن خلال ما قدَّمه نفر ماعت، نستطيع أن نعرف أن الجوانب الأربعة للهرم.. كانت متساوية، ولا تتعدى نسبة الخطأ فيها المليمترات.
نقلاً عن «المصري اليوم»