وجيه وهبة
هو يوم المفارقة، يوم 28 سبتمبر، ففي مثل هذا اليوم من خريف العام 1961 سقطت ورقة الوحدة «المصرية السورية»، وبدأ معها العد التنازلي، وسقوط أوراق عمر بطل هذه الوحدة المغدورة وضحيتها؛ «جمال عبد الناصر»، حتى سقط آخرها. وفي خريف عام 1970، ورحل عن عالمنا، وللمفارقة، في يوم 28 سبتمبر أيضاً.
الحديث عن صُناع التاريخ من الحكام والسياسيين لا يتوقف – ولا يجب أن يتوقف – فالأجيال المتعاقبة تأخذ العبرة ـ لمن يعتبر ـ من سيرهم وأعمالهم، من نجاحاتهم وإخفاقاتهم. وأياً كان موقفك منهم، ومما صنعوه لبلادهم وببلادهم – سلباً وإيجاباً – هناك دائماً نماذج للبحث والدراسة، منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا؛ مروراً بالإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر و«نابليون بونابرت» و«محمد علي» و«موسوليني» و«هتلر» و«سعد زغلول» و«غاندي» و«ناصر» و«السادات». وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
■ في عام 1957، تبدَّت للقيادة السورية.. مؤامرات من «حلف بغداد»، ومن الحشود العسكرية التركية على حدودها، ارتأت فيها أطماعاً توسعية، وتهديداً لأمن «سوريا» القومي. استجارت «سوريا» بالزعيم «ناصر»، وكان قد ارتفع نجمه إلى عنان السماء، وذلك بعد انتصاره السياسي في «حرب السويس 1956»، تلك الحرب التي حوَّلته من «رئيس» إلى «زعيم»، بل أهم وأقوى «زعيم عربي». أجار «الزعيم» «سوريا»، التي كان لها موقف قوي داعم لمصر أثناء الحرب، وأرسل بعضاً من القوات المصرية إلى «اللاذقية».. في الشمال السوري. لم يكتفِ «القوميون العرب» و«البعثيون» في «سوريا» بذلك، بل طالبوا بوحدة اندماجية مع «مصر» لمواجهة الأخطار المحدقة ببلدهم. طار إلى «القاهرة» مجموعة من الضباط الوحدويين من قيادات الجيش السوري – متجاهلين وزير الدفاع ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وكل مؤسسات دولتهم – جاءوا لمقابلة «ناصر».. لإقناعه بخطورة الأوضاع الداخلية والخارجية، وبضرورة إعلان الوحدة بين البلدين تحت رئاسته. أخيراً – وتحت الإلحاح والضغط المعنوي – وافق «ناصر» على «الوحدة» الاندماجية. وكانت غلطة.
بين العاطفة والحكمة
■ كان رأي بعض من السياسيين السوريين، أن تكون الوحدة في البداية «فيدرالية» لا «اندماجية»، بمعنى أن تكون هناك وحدة في السياسات الخارجية والدفاع وفقط. فقد كانت الحياة في «سوريا» – بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية – مختلفة تماماً عن نظيرتها في «مصر»؛ ففي «سوريا» كانت هناك تعددية حزبية.. كما تتعدد الزعامات السياسية وتتوزع بين: «حزب البعث» و«الحزب الشيوعي» و«الحزب السوري القومي»… إلخ.
أما في «مصر»، فقد كانت الأحزاب قد أُُلغيت منذ سنوات، وتمثلت الحياة السياسية فيها في تنظيم سياسي واحد (الاتحاد القومي) وزعيم أوحد «ناصر».
في نهاية الأمر، تغلبت العاطفة على الحكمة، ورجَّح رأي أنصار الوحدة الاندماجية. وكان من بين شروط «ناصر» – لقبوله بتلك الوحدة – إلغاء الأحزاب في «سوريا». وكان في ذلك تجاهل لتاريخ طويل من الكفاح.. لأحزاب وقيادات لعبت دوراً مهماً، ودفعت أثماناً باهظة في سبيل استقلال «بلادها». وبذلك الإقصاء.. وُلد مع الوحدة – منذ اليوم الأول لقيامها – معارضون وأعداء مناوئون لها.. في الداخل السوري، فضلاً عن أعداء الخارج.
تم إعلان الوحدة بين البلدين (22 فبراير 1958)، وتم اختيار «ناصر» رئيساً لدولة الوحدة الجديدة. وُسميت الدولة الجديدة «الجمهورية العربية المتحدة» (ج.ع.م). تم محو الاسمين: «سوريا» و«مصر» من الوثائق والخرائط والمحررات الرسمية. وأصبح اسم «سوريا»؛ «الإقليم الشمالي» واسم «مصر»؛ «الإقليم الجنوبي»، وكان ذلك مهزلة وجريمة كبرى.. في حق الكبرياء الوطني لكلا الشعبين.
بمرور الأيام، اتجه «ناصر» وجهة «اشتراكية»؛ فقام بإجراءات «تأميم».. بلغت ذروتها في يوليو 1961. وكانت خطأً عظيماً؛ إذ لم يراعِ «ناصر» طبيعة «الشوام»، فهم – على مدار التاريخ – تجار. التجارة هي نشاطهم الرئيسي، وآليات الاقتصاد الحر تسري في دمائهم. كما كانت مصالح الرأسمالية السورية تتشابك مع بعض المتنفذين من كبار الضباط.
كل ذلك عجَّل بإسقاط «الوحدة»، فوقع انقلاب الانفصال بعد ما يقرب من شهرين فقط عقب قرارات التأميم.
عيِّل تاه ولقوه
■ كان «ناصر» قد عيَّن المشير «عبد الحكيم عامر» نائباً له في حكم «الإقليم الشمالي» (سوريا)، وقد كان فشل «المشير» في إدارة الأمور كما ينبغي.. عاملاً مهماً ورئيسياً من عوامل إفشال الوحدة، وقيام الانقلاب الانفصالي ضدها. وكانت تصرفات رجال «المشير عامر» – وما قيل عن تجاوزاتهم واستعلائهم على زملائهم من الضباط السوريين أيضاً – من الأسباب التي عجَّلت بالانقلاب على الوحدة. ولا عجب أن الانقلاب قد انطلق ودُبِّر من مكتب المشير، وقاده مدير مكتب المشير نفسه؛ الضابط السوري «عبد الكريم النحلاوي».. إذ لم يكن «المشير» يعي تماماً أو يدرك ما يدور حوله، لا في مكتبه ولا خارج مكتبه، لا في «سوريا» ولا في «مصر»، لا أثناء الوحدة ولا قبلها ولا بعدها، وإلى أن وافته المنية بعد كارثة يونيو 1967، التي شارك في صنعها بنصيب الأسد.
كان «ناصر» يضحك.. وهو يصف توأم روحه وصديق عمره «عامر» ويقول: «من مشاكل عبد الحكيم أنك لو سألته عن قصة سيدنا يوسف لرد عليك بأنها قصة صبي تاه ثم لقوه». («سنوات الغليان» ـ هيكل). والعجب العجاب، أن يضع «ناصر» على رأس جيش البلاد – ويضع أمنها وأمن حدودها – بين يدي رجل.. يصف وعيه وإدراكه هكذا وصف؛ تعددت كوارثه وهزائمه، وكل مؤهلاته هي أنه «صديق العمر» الوفي، ويا له من ثمن باهظ دفعته البلاد من دم أبنائها وأرضها واقتصادها ومستقبل أبنائها، من جراء مهزلة وتراجيديا هذه الصداقة.
نقلاً عن «المصري اليوم»