Times of Egypt

ليالي الأنس في كندا

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد

عندما غنَت الرائعة أسمهان «ليالي الأُنس في ڤينا»، كانت تشير إلى نوع من أُنس الليل.. موجود «منه فيه» في ڤينا.. بألحان الموسيقيين العظام: وهل تخفى ألحان موتسارت؟ 

… كانت تقصد عروض النمسا المسرحية الشهيرة، التي لا ينقصها شيء من عناصر الإبهار. هذا إذن معروف. 

لكن ليالي كندا، تحتاج إلى ناس.. تصنع لها أُنسها، فمع أن صباحات ڤينا.. قد تتداخل مع صباحات ڤانكوڤر – أجمل المدن الكندية على الإطلاق؛ من حيث سحر الطبيعة واللون الأخضر على مدد الشوف – إلا أن مساءات ڤينا النابضة، لا تشبه مساءات ڤانكوڤر الهادئة ،ولا أي مدينة كندية أخرى في شيء؛ حيث يوجد القليل جداً مما يمكن عمله. طبعاً لا يخلو الأمر من زيارة فرقة موسيقية أمريكية، أو مُغنٍّ عربي.. يُشعل ليل العاصمة أوتاوا، ويضطر أهلها للسهر صبَّاحي. لكن الفن النمساوي ينبع من الداخل، وهذا مختلف.

***

من طقوس زياراتي الصيفية السنوية.. لابنتي المقيمة في كندا، أن نجلس معاً كل ليلة.. لمشاهدة أحد المسلسلات اللبنانية. بشكل عام، لم أعد أتابع المسلسلات. فلم يعد لي صبر على انتظار تسلسل الأحداث.. من حلقة لأخرى، بعكس زمان وأيام زمان، عندما كنت أتابع بانتظام شديد حلقات مسلسلات «القط الأسود» و«بنت الحتة» و«القاهرة والناس». أيامها كان الوقت براحاً، ووسائل التسلية محدودة جداً، والدراما بالغة الإحكام، حتى أننى – رغم مرور خمسين عاماً – ما زلت أتذكر الجملة الختامية لحفيظة هانم (أو عقيلة راتب) في نهاية كل حلقة من مسلسل «عادات وتقاليد»، وهي تندب حظها العاثر بالقول: «عينى عليَّ». كما لا زلت أذكر داڤيد چونسون.. الذي لعب دور الطبيب ريتشارد كمبل في المسلسل الأمريكي «الهارب». 

عموماً، ذهب هذا العصر الجميل لحاله، ولم أعد أتابع المسلسلات إلا في حالتين: شهر رمضان.. باعتبار المسلسلات من الطقوس الرمضانية لكثير من الأسر المصرية، والشهر الذي أقضيه في كندا.. كفرصة للجلوس أطول وقت ممكن مع ابنتي. تأتي الساعة الثامنة مساءً، ونطمئن إلى أن المحلات التجارية أغلقَت أبوابها والحمد لله، ولم تعد هناك فرصة للخروج، ثم نجلس – هي وأنا – لنتابع المسلسلات اللبنانية بالذات. أعتز كثيراً، بأنني أورثت بنتي وابني حبي للبنان، وحب كل ما يأتي من لبنان: الثقافة والشياكة والطعام، والبذورات والزهورات وحلاوة الروح، والفهلوة ومكتبة أنطوان وبُن الرفاعي وبيت مِري. ولو أن لبنان في الحقيقة ليس في حاجة إلى خدماتي.. ولا إلى خدمات غيري، فهو يدخل مباشرةً إلى القلب، ويتربع فيه.. دون حاجة إلى وسطاء.

***

ومع أننا اعتدنا – ابنتي وأنا – أن نشاهد المسلسلات اللبنانية بشكل دوري كل سنة، إلا أن صيف هذا العام.. شهد تحطيم كل الأرقام القياسية، لعدد المسلسلات والحلقات التي تابعناها معاً: 5 مسلسلات – بواقع 338 حلقة بالتمام والكمال – فحلقات المسلسل الواحد كانت تتراوح بين 30 حلقة كحد أدنى، و90 حلقة كحد أقصى. وهذا المط الشديد للأحداث.. مثّل تحدياً لنا لا يمكن إنكاره، لكننا بعون الله.. أتممنا المهمة بنجاح. وحتى عندما أوشكتُ على العودة للقاهرة – قبل الانتهاء من متابعة أحد المسلسلات من أصحاب الـ90 حلقة – لم نعدم الوسيلة لإنجاز الهدف، فكنت أشاهد بمفردي بعض الحلقات في الصباح، أثناء وجود ابنتي في العمل، وعند عودتها بعد العصر.. ألخِّص لها الأحداث. 

طبعاً يمكن ملاحظة أن الدراما اللبنانية.. فقدَت – بذلك التلخيص – جزءاً مهماً من وظيفتها الأساسية، أي الجمع بيني وبين ابنتي في جلسات حميمة.. للمشاهدة والنقد والتعليق. لكن على الجانب الإيجابي، صارت لنا خبرة يُعتد بها.. في المقارنة بين أطوار حياة – وليس فقط بين أدوار – الممثلين اللبنانيين، وأيضاً السوريين.. الذين يحظون بمساحة متزايدة على خريطة الدراما اللبنانية. وبات بإمكاننا أن نتابع تطور نضجهم – من الناحيتين الفنية والعُمرية – ما بين مسلسل وآخر. كذلك وفرت لنا هذه الدراما متعة بصرية.. لا حدود لها، وإن لم أسعد كثيراً بتصوير عدد كبير من المشاهد، وربما مسلسلات كاملة.. في جبال تركيا، لأن جبل لبنان لا مثيل لجماله، وأناقة منازله المترامية عند السفح، والمختبئة في تلافيف الطرق الجبلية.

***

وإضافة إلى ما سبق، تحسَّنت بشكل ملحوظ حصيلتنا اللغوية من القاموس الشامي.. وما ألذّه من قاموس. وهكذا – ولأيام طويلة – ظللت أنادي زوج ابنتي بـ«صهر» – كما في مسلسل «كريستال» – تعالى يا صهر.. روح يا صهر، و«نقّزتِني» (فاجأتني) يا صهر، و«بُق البحصة يا صهر» (بُح بما تتردد في قوله)، و«كستر» (تنزّه) بالعربية شوية يا صهر. 

ومع أن صهر كلمة عربية فصيحة، إلا أنني اكتشفتُ أنه يتم تشبيكها.. مع المفردات العامية بسلاسة شديدة، حتى على المستوى الشعبي؛ كمستوى عائلة الناطور (البواب) مثلاً. وأصبحَ مصطلح «حازتّك في» (سألقي بك في).. مصطلحاً دارجاً على لسان ابنتي، من كثرة ما سمعَت عن «الزّت في الحبوسة» (أي في السجن) في معظم المسلسلات تقريباً، وألطف من ذلك مصطلح «تتختخ في الحبوسة» (ما نسميه في العامية المصرية حاتخلل في الحبس). 

ورحنا نحن الاثنتين نتبارى.. في عدد الكلمات التي التقطناها من المسلسلات اللبنانية الخمس، تقول لي ابنتي «حاچ» (إياكِ) تتأخري، وانتِ «ع قد حالِك» (قدها وقدود)، والولد ده «كربوچ» (سمين)، فأرد عليها بأن فلاناً «مقطّع موصّل» (أى مقطّع السمكة وذيلها كما نقول)، ولا «تبربري» (لا تثرثري)، و«كنكني» (ارتاحي أو استكيني) شوية.

***

ونسّتنا المسلسلات اللبنانية.. في الأمسيات الكندية الممّلة، وقرّبتنا من ست الدنيا.. التي زاد إليها الشوق، مع انقطاع سبل زيارتها من عدة سنوات. وكأنما تخشى أن ننساها.. إن هى لم تونسنا، لكن أي قلب هذا الذي يتحمّل أن ينسى لبنان؟ 

وأعطتنا المسلسلات اللبنانية أيضاً، جرعة مكثفة من حب الحياة، تعوِّضنا عن إحباطات فوق إحباطات، فيكفي أن نرى الممثلة الرائعة باميلا الكيك – بطولها الفارع وتناسق ألوانها وإبهار حليها – وكأنها خرجَت لتوها من كتالوج، حتى نتأكد أن لبنان وأهل لبنان.. غير شكل، وحتى نثق أن في الحياة جمالاً، يستحق أن نكافئ أنفسنا برؤياه.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة